تأمل قولين يكادان يكونان متزامنين؛ أولهما من عميد شحادة، الصحفي الفلسطيني الذي كان في مخيم جنين أثناء الهجوم واسع النطاق للقوات الإسرائيلية.
حيث قال: "المشهد في جنين مرعب. حيث الذخيرة الحية تأتي من كل اتجاه، بينما المنازل تتعرض للهدم. وصوت الصراخ يصعب نسيانه، فما زال يتردد في رأسي باستمرار وإلى الآن. أما عن الصدمة الأكبر، عندما بدأ الجنود الإسرائيليون بإطلاق الرصاص فور نزولهم من عرباتهم ورؤيتهم لنا ولكاميراتنا".
أما عن القول الثاني فقد جاء من مايكل غوف، وهو السياسي المحافظ ووزير الدولة لشؤون الإسكان والمجتمعات.
فبينما كانت الجرافات الإسرائيلية تشق طريقها عبر مخيم جنين يوم الثلاثاء، وقف غوف في البرلمان البريطاني لتقديم القراءة الثانية لمشروع القانون الذي يحظر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS). ثم اختتم كلمته الافتتاحية بالقول إن كل من صوَّت ضد مشروع القانون "معادٍ للسامية" وأضاف: "إن السؤال الذي يُطرح على كل واحد من أعضاء هذا المجلس هو ما إذا كان يقف معنا ضد معاداة السامية أم لا".
ويسعى مشروع قانون النشاط الاقتصادي للهيئات العامة (الشؤون الخارجية) إلى حظر الهيئات العامة وضمن ذلك المجالس المحلية، من دعم حملات المقاطعة التي تستهدف الحكومات الأجنبية على أسس أخلاقية أو سياسية.
وشن غوف هجومه على حركة المقاطعة "بي دي إس"، بناءً على أمرين: أنها تتبنى معاداة السامية في البلد، وأنها تخالف السياسة البريطانية إزاء الصراع، وهي السياسة التي تدعم حل الدولتين، لأن "بي دي إس"، بزعمه، "كانت قد صممت تحديداً من أجل طمس هوية إسرائيل كوطن للشعب اليهودي".
وحسبما صرح وزير الظل السابق، ريتشارد بيردن، فإنه يُقصد من مشروع القانون ذاك تحصين "إسرائيل" بشكل استثنائي ضد المساءلة عما ترتكبه من انتهاكات لحقوق الإنسان وضد أي رقابة قد تمارسها عليها كيانات عامة بريطانية، ومن ثم فإن ذلك سوف يفضي إلى النيل من التزام بريطانيا بالمبادئ الإرشادية للأمم المتحدة في ما يتعلق بالتجارة وحقوق الإنسان، وهي المبادئ التي وقعت عليها بريطانيا قبل ما يزيد على عقد من الزمن.
لم يأتِ توقيت مشروع القانون هذا ولا النقاش المتعلق به صدفة.
وليس من المصادفة أن ينخرط الطرفان المتقابلان بمجلس العموم في نقاش حول القانون الذي سوف يضيف طبقة أخرى للحصانة التي تتمتع بها "إسرائيل"، في الوقت الذي تشن فيه عملاً حربياً إجرامياً ضد اللاجئين داخل مخيم شديد الاكتظاظ. وعندما تنتهي الحرب، يكثف الجيش نيرانه باتجاه المستشفيات التي تعالج المصابين.
دليل عمل إسرائيل
إن الجدل البريطاني هو بالتأكيد جزء من دليل عمل تنتهجه إسرائيل، والذي تستخدمه كغطاء لمواصلة مشروع الضم. إذ إنه في اللحظة نفسها التي تكون فيها إسرائيل بوضوح وبلا أي مجال للشك هي المعتدي، يسعى كلا الجانبين من خلال نقاشهما في لندن إلى تصويرها هي ومؤيديها على أنهم ضحايا.
وهذا يكشف النقاب عن خرافة، ألا وهي أن أي حكومة بريطانية بأي لون من ألوان الطيف السياسي جادة بشأن التمكين لإقامة دولة فلسطينية، والتي يتطلب قيامها اليوم إخلاء ما يقرب من 700 ألف مستوطن من الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين.
وهذا بالطبع وهم وخداع بيّن، فعلى سبيل المثال، المستوطن مردخاي كوهين، الذي قال لقناة Kan الإسرائيلية بوضوح، إن الهدف من هجمات المستوطنين بهذا الشكل العنيف وغير المسبوق على القرى والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية هو "دفعهم إلى المغادرة"، وأضاف أن "على الفلسطينيين أن يتوجهوا إلى الأردن للعيش فيه إذا كانوا يكترثون بالعيش حياة طبيعية".
وهتف كوهين بمنظر 3000 فلسطيني يفرون من منازلهم داخل المخيم الذي تعرض لهجوم بري وجوي من الجيش الإسرائيلي. واضطر هؤلاء الفلسطينيون إلى الفرار من ديارهم عدة مرات خلال السنوات الـ75 الماضية. وعائلاتهم من حيفا ويافا وجميع أنحاء الأراضي المحتلة عام 1948.
بإمكان الجميع أن يروا وبوضوح شديد، مدى بذاءة وفحش مثل هذا النقاش الذي يجري داخل مجلس العموم في الليلة نفسها التي قامت فيها القوات الإسرائيلية بمهاجمة مخيم جنين، الذي يكتظ فيه ما يقرب من خمسة عشر ألف نسمة داخل نصف ميل مربع، مستخدمين الطائرات المسيرة والدبابات والجرافات والقناصة.
تحت قيادة كير ستارمر، يسارع حزب العمال إلى التنصل من أي تشابه بينه وبين الحزب الذي كان ينشط في النضال ضد نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا، أو من أي ادعاء بأنه تقدمي.
إنما يكمن الفرق بين ستارمر وغوف في الصياغة وليس في النوايا.
الضوء الأخضر للتطرف
للمرة الثانية في حياته المهنية كزعيم للمعارضة، لجأ ستارمر إلى محامٍ كبير لطلب النصيحة.
كانت المرة الأولى عندما وجد المحامي مارتن فورد أن "من التضليل المبين" القول إن زعيم حزب العمال السابق جريمي كوربين، تدخل بفعالية لوقف التحقيق في قضايا تتعلق بمعاداة السامية.
لم يكن ذلك ما يرغب في سماعه كير ستارمر، الذي هو نفسه محامٍ متخصص في حقوق الإنسان. فما كان منه إلا أن تجاهل المحامي فورد وأهمل نصيحته. ولم يكن ستارمر أكثر حظاً في لجوئه إلى المحامي الثاني ريتشارد هيرمر.
فقد خلص هيرمر إلى أن مشروع القانون المضاد لحركة المقاطعة "بي دي إس" قبيح بغض النظر عما اعتبرت حركة بي دي إس مستهجنة تماماً أو اعتبرت عكس ذلك شكلاً مشروعاً من أشكال الاحتجاج غير العنيف.
وقال هيرمر إن مشروع القانون يمكن أن تكون له تداعيات بالغة الضرر على قدرة بريطانيا على حماية ودعم حقوق الإنسان في الخارج، بل من المحتمل ألا ينسجم مع "التزاماتنا تجاه القانون الدولي، ومن شأنه أن يحد من حرية التعبير داخل البلد".
وانتهى هيرمر إلى القول: "لو أن تشريعاً من هذا النوع تم تبنّيه في ثمانينيات القرن الماضي لغدا بسببه من غير المشروع اللجوء إلى مقاطعة البضائع الواردة من جنوب إفريقيا في عهد نظام الفصل العنصري".
إلا أن ستارمر تجاهل هيرمر، وامتنع حزب العمال عن التصويت على القراءة الثانية لمشروع القانون.
تُعَد مثل هذه النتيجة منةً من السماء للجنود والمستوطنين الإسرائيليين الذين يعتدون على اللاجئين الفلسطينيين داخل مخيماتهم وقراهم وداخل منازلهم.
والأمر نفسه ينطبق على التصريح الناعم لرئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، الذي حثَّ فيه إسرائيل، التي قتلت حتى الآن 12 فلسطينياً وأصابت أكثر من 100 آخرين، على "ضبط النفس". وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الولايات المتحدة بأنها "حليف إسرائيل الذي لا بديل له ولا استغناء عنه".
فقد دعمت الولايات المتحدة تبرير إسرائيل للهجوم على مخيم جنين للاجئين، إذ صرح الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس، قائلاً: "إن لإسرائيل الحق المشروع في الدفاع عن شعبها وعن أرضها ضد كافة أشكال العدوان، وضمن ذلك تلك التي تصدر عن الجماعات الإرهابية".
تمثل كل هذه التصريحات بالتراكم ضوءاً أخضر شديد اللمعان أمام أشد الحكومات تطرفاً في تاريخ "إسرائيل"، التي يحتل المناصب فيها عدد من الوزراء الفاشيين والإرهابيين، حتى تمضي قدماً في تنفيذ إجراءاتها لتطهير الضفة الغربية عرقياً.
والحصانة من المساءلة جزء أساسي من السماح لـ"إسرائيل" بالاستهزاء بالسياسات المعلنة لاثنين من مسانديها الأهم على الإطلاق: بريطانيا والولايات المتحدة.
وذلك هو السبب في تجاوز "إسرائيل" منذ زمن طويل، نقطة القبول بوجود دولة فلسطينية إلى جوارها. بل هي الآن متوجهة نحو حل الدولة الواحدة، حيث تسعى الأقلية اليهودية بكل الوسائل المتاحة لديها إلى إجبار الأغلبية العربية على المغادرة.
وبناءً عليه فقد غدا تظاهر بريطانيا بأنها تؤمن بأن الدولة الفلسطينية لا تزال ممكنة واحدة من أبشع وأقبح الروايات التي ترتكبها.
واقع الدولة الواحدة
ولا يجد حرجاً من التصريح بذلك إيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطني في إسرائيل، ولا المستوطنون.
لا يرى زعماء المستوطنين الإسرائيليين مشكلة في الإعلان عن نواياهم. بل يتفاخرون بذلك في واقع الأمر. فهم يريدون أن يجبروا أكبر عدد من الفلسطينيين على مغادرة منازلهم في الضفة الغربية، وبقدر ما يتمكنون من إنجازه ويفلتون من المساءلة والمحاسبة عليه، وذلك عبر إرهابهم وحرق بيوتهم لإجبارهم على إخلائها وإطلاق النار عليهم.
وبالطبع يفعل المستوطنون ذلك تحت حماية الجنود الذين ينتهجون السياسة نفسها في جنين ونابلس وجميع أنحاء الضفة الغربية.
ولا يقل بيزاليل سموتريتش، زعيم حزب الصهيونية الدينية، وضوحاً من حيث نواياه تجاه الضفة الغربية. فقد كتب في "خطة القرار" في عام 2017 يقول إنه لا وجود للفلسطينيين كشعب.
ويضيف: "ما الشعب الفلسطيني، أساساً، سوى حركة مضادة للحركة الصهيونية، هذا هو جوهر الموضوع، ألا وهو مناهضة حق إسرائيل في الوجود. كما أن أحزاب تقرير المصير الفلسطيني يعلمون أن مثل هذه (الأمة) لم تكن موجودة قبل المشروع الصهيوني، وأن (فلسطين) كان الاسم الجغرافي لقطعة الأرض هذه، ولا شيء أكثر من ذلك".
وهذه هي الطريقة نفسها التي يتحدث بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أوكرانيا والأوكرانيين.
يخلص سموتريتش إلى القول: "إن استمرار وجود تطلعات وطنية متعارضة في قطعة أرضنا الصغيرة هذه من شأنه أن يضمن استمرار سنوات عديدة أخرى من الدم والعيش على حد السيف. فقط حينما يستسلم أحد الطرفين، اختياراً أو ضرورة، ويتخلى عن طموحه الوطني في أرض إسرائيل، سوف يتحقق السلام المنشود منذ أمد بعيد، وحينها يمكن أن يعيش الناس حياة من التعايش الحضاري هنا".
ومن الخرافة أيضاً التظاهر بأن تلك، كذلك، ليست سياسة إسرائيل، وسياسة حركتها الاستيطانية، وسياسة جيشها، بل وسياسة محاكمها.
جيل آخر
كل كلمة ينطق بها ستارمر أو ليزا ناندي، وزيرة الدولة للتسوية في حكومة الظل البريطانية، لدعم "الوطن اليهودي"، ففي كل مرة يمتنع حزب العمال عن التصويت، يرسلان رسالة واضحة جداً إلى إسرائيل بأنه يمكنها الاستمرار في ما تريد.
وهذه الرسالة تحفز كل تعبير عن "الدولة اليهودية"، التي تعرِّف نفسها على أنها تجسيد وحق لتقرير المصير لمواطنيها اليهود فقط، من أجل إنهاء المهمة التي بدأتها عام 1948 بالطرد الجماعي للفلسطينيين.
لا ترى إسرائيل ما تتسبب به من معاناة، ولا ترى ضحاياها بشراً، وإنما تراهم عقبات في طريق تحقيق طموحاتها الوطنية.
لا أعلم من يستحق أن يوجه إليه القدر الأكبر من اللوم: سموتريتش وبن غفير أم المدافعون عن إسرائيل في بريطانيا.
في هذه اللحظة التاريخية، كلاهما يخدم القضية نفسها. إلا أن سموتريتش على الأقل صريح بشأن نواياه الحقيقية، بينما ستارمر فلا.
هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها اجتياح أجزاء من مخيم جنين بالجرافات وتسوى بها الأرض.
كان شارون يعتقد أنه تمكن من علاج المشكلة بعد معركة جنين في أوج الانتفاضة الثانية في عام 2002، والتي قتل فيها 52 فلسطينياً، نصفهم تقريباً من المدنيين.
كما اعتقد أن توني بلير، بوصفه مبعوثاً إلى الشرق الأوسط، أنه حل المشكلة من خلال خططه لإقامة منطقة اقتصادية.
رغم ذلك، وبعد 21 عاماً بالتمام والكمال، ما زالت جنين ساحةً مفتوحةً للمقاومة فمع جيلٍ من المقاتلين الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد في عام 2002، لن تستلم جنين أمام الاحتلال، فهي لم تفعل ذلك من قبل إبان الاحتلال البريطاني، ولن تفعل أمام الاحتلال الإسرائيلي.
وإذا كان نتنياهو يعتقد أن الأمر قد حُسِمَ بفضل هذه العملية، فهو مخطئ بشدة. فقد بدأ فصل آخر سيحفز جيلاً آخر من المقاتلين على تبني قضية تحرير وطنهم.. من كل المحتلين.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.