في طريقي اليومي من وإلى مدرستي الابتدائي كنت أمر سريعاً على لافتة معلقة أمام باب المتحف الإسلامي، كُتب عليها بخط عربي مزخرف جميل: "عندما تكلم العلم بالعربية".
كانت تأسرني اللافتة بجمال زخرفتها، وعندما أدركت المعنى أسرتني بجمال معناها، كنت أدندن كلمات "تتر" مسلسل هارون الرشيد الذي كان يذاع في ذلك الوقت قائلة: عندما كانت أمة العرب تُشهد الدنيا عصرها الذهبي.
ظللت سنوات أتابع اللوحة وألوانها تخفت رويداً رويداً حتى جاء عام دراسي جديد ولم أجدها، بعد أيام من إطلاق بصري في البحث عنها ونحن نمر وجدتها ملقاة على جانب الطريق مستندة إلى سور المتحف لتظل سنوات ملقاة هناك، كبرتُ وتغير طريقي ثم تم تجديد المتحف ومحيطه، واختفت اللوحة المُلهمة إلى الأبد.
يوماً ما كانت العربية حُلم الغرب
قد لا تتخيل الأجيال الحالية أن جملة "تكلم العلم بالعربية" كانت حقيقة يوماً ما، وليست من مبالغات كبار السن، أو حالة شيفونية متقدمة، ففي العصور الأولى للدولة العباسية في الشرق والدولة الأموية في الأندلس كانت العربية هي لغة الوجاهة الاجتماعية، حيث يتفاخر الأجنبي ببعض الكلمات العربية، وتسعى الأسر التي ترغب لأبنائها في تعليم مميز لتعليمهم اللغة العربية، لغة العلم آنذاك كما نفعل نحن الآن مع الإنجليزية.
ومع انحدار التأثير العربي والقوة الثقافية والعلمية اندثر السعي لمعرفة العربي، ككل شيء اندثر في العالم العربي، الأزمة أن هذا الاندثار والتجاهل لم يكن من الأجانب فقط، بل من العرب أنفسهم الذين همشوا الثقافة العربية جيلاً بعد جيل، حتى أصبح التراث العربي منسياً لدى الأجيال الحديثة.
غُربة داخلية وخارجية
في آخر إحصاء رسمي في دولة عربية كبيرة التعداد كمصر قُدّر عدد المهاجرين إلى الخارج بأكثر من 10 ملايين نسمة، من ضمنهم 3.5% في دول ذات ثقافة غير عربية.
في السابق كنت ستلاحظ أن المُغترب العربي يحرص على ربط أبنائه بثقافته، أما الآن فالعكس صحيح؛ هناك تفاخر ملحوظ لدى المغتربين باندماج أبنائهم الكامل في ثقافة البلاد التي يعيشون فيها، مع تهميش كامل للثقافة العربية، فنشأت أجيال لا تفقه شيئاً عن التراث العربي القديم ولا حتى الحديث.
ومع نوائب الدهر التي أصابت الكثير من الدول العربية، وتوزع اللاجئين في بلاد العالم لأسباب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية اختيارية وجبرية، تزايدت أعداد الشباب الذي انفصل عن ثقافة بلاده بشكل شبه كُلي.
الأسوأ أن الأمر لم يعد مقتصراً على من تركوا بلادهم قسراً أو اختياراً، بل تسلل للأجيال الحالية التي تعيش على أراضي أوطانها العربية، والتي يوماً بعد الآخر تُعاني من التغريب وفقدان هويتها العربية المميزة لها، ونسيان تراثها العربي.
والأزمة أنه لا أحد يرى في ذلك مشكلة تستوجب الحل.
العب لعبة مع أطفالك الصغار
مع قريبي الصغير في معرض الكتاب توقفنا أمام كتب أطفال عربية تبدو لطيفة، سألته إن كان يريد بعضها فسألني عن كتب مكتوبة بالإنجليزية، فهو لا يتقن القراءة بالعربية جيداً ولا يحبها، لأكتشف أن ابن صديقتي أيضاً تبحث والدته عن الكتب الأجنبية فقط، وعندما جلسنا للراحة والأغاني تصدح من المطاعم حولنا، سألت الأطفال عن إحدى الأغنيات الجديدة إن كانوا يحبونها؛ لأكتشف أن أغلبهم لا يستمعون إلى الأغاني العربية، والقلة منهم تعرف مطرباً أو اثنين من حديثي الطرب، وهكذا ابتكرت لعبة لألعبها معهم وجاءت نتائجها صادمة.
فهل تريد أن تجرب اللعب؟
إن كنت عربياً تعيش في إحدى الدول غير العربية، أو تعيش بدولة عربية ولكن أبناءك في مدارس أجنبية ومتشبعين بالثقافة الغربية، وفي سن من 6 إلى 14 عاماً؛ جرّب أن تلعب معهم هذه اللعبة.
– اسألهم عن أسماء 10 مطربين ومطربات عرب راحلين وحاليين.
– اسألهم عن 10 أفلام بالأبيض والأسود.
– اسألهم عن 5 فقط من العلماء العرب القدامى.
– اجعلهم يخبرونك بأسماء 5 كتب عربية معاصرة وأخرى من أمهات الكتب.
– اجعلهم يذكرون لك 5 أماكن أثرية تعبر عن التراث العربي.
– اجعلهم يذكرون 5 مهن تراثية عربية قديمة فقط.
-اجعلهم يتذكرون 5 عواصم عربية قديمة أو حديثة.
هل أحبطتك النتائج؟ على كم من 50 حصل الأطفال؟ أخبرك أن الأطفال حولي حصل بعض الكبار منهم على 10 درجات من 50 بأفضل تقدير، بينما الصغار بعضهم حصل على صفر أو 1 فقط، مع الأسف هذه هي الحقيقة التي تزداد سوءاً.
التراث العربي المنسي
في الواقع إن تراث العالم العربي يُعد تراثاً من أغنى التراث الثقافي والتاريخي في العالم. يمتد تاريخه لآلاف السنين، ويشمل مجموعة متنوعة من الفنون، والعلوم، والأدب، والفلسفة، والعمارة، والموسيقى، والتقاليد الاجتماعية. ومع ذلك، يوجد العديد من الأجزاء والجوانب من تراث العالم العربي التي تم تجاهلها ونسيانها على مر العصور.
تعود جذور تراث العالم العربي إلى العصور القديمة، حيث كان للحضارات العربية المُبكّرة إسهامات كبيرة في مختلف المجالات. على سبيل المثال، كانت حضارة ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية تعتبر مركزاً للتجارة والثقافة، وكان لديها نظام كتابة متقدم يعرف بـ"الكتابة النبطية". هذا النظام الكتابي تم استخدامه لتسجيل الشعر والأدب والتاريخ.
عندما جاء الإسلام، تطورت اللغة العربية وازدهرت العلوم والفنون في العالم العربي الإسلامي. كان للعلماء والفلاسفة العرب العديد من الإسهامات المهمة في مجالات؛ مثل: الرياضيات، والفلك، والطب، والفلسفة، كالخوارزمي في الجبر، وابن الهيثم في البصريات، وابن رشد في الفلسفة، وغيرهم.
بالإضافة إلى العلوم، كان للأدب دور كبير في تراث العالم العربي. ازدهرت الأشعار العربية حيث القصائد الرائعة في مختلف الأنماط والأشكال الشعرية، مثل عنترة بن شداد، والشاعر العربي الأندلسي ابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، والإمام الشافعي، وأبي الطيب المتنبي، لنصل إلى جبران خليل جبران.
ليس هذا فقط هو التراث المنسي، ولكن تراث العمارة العربية هو أيضاً جزء مهم من التراث العربي المنسي. تميزت العمارة الإسلامية بتصاميمها الفريدة واستخدام الزخارف والأشكال الهندسية المعقدة. مثل الجامع الأموي في دمشق، وقلعة صلاح الدين والجامع الأزهر في مصر.
وفي مجال الموسيقى، يحتوي التراث العربي على أصوات وآلات موسيقية فريدة من نوعها تتميز بنغماتها المختلفة؛ مثل: العود والقانون والناي والدربكة والرقّ، وغيرها من الآلات الموسيقية التقليدية.
ليس هذا كل شيء، بل يمتد التراث العربي المنسي ليشمل بعض التقاليد الاجتماعية والشعبية مثل تقاليد الزفاف، والمواكب الشعبية، والألعاب التقليدية، والمهرجانات الدينية والثقافية، والتي تكاد تندثر حالياً، ويحل محلها مظاهر مستحدثة غالباً ما تنتمي للثقافات الغربية.
الانقراض يطرق الباب
هناك كذلك بعض التراث العربي الذي أصبح على وشك الانقراض؛ مثل: فنون الخط العربي، والحرف اليدوية، والنسيج التقليدي.
كذلك التراث الشفهي من القصص الشعبية والأساطير والأغاني التقليدية، والمواقع التاريخية العربية التي لم تعد تحظى بالاهتمام الكافي، وتعاني من يد الإهمال، بل وبعضها تتم إزالته بدلاً من ترميمه وإبراز قيمته التاريخية والثقافية.
فهل إذا انقرض تاريخنا انقرضنا معه لنتحول إلى مسخ لا ينتمي لحضارة ماضية، ولا يستطيع الزعم أنه ابن الحضارة الغربية؟
لماذا نسينا تراثنا؟ وما الحل؟
على مر العصور تراكمت الأسباب التي أدت إلى تجاهل وتهميش تراث العالم العربي، ومن بينها:
الاستعمار والتدخل الخارجي: عندما كانت الدول العربية تحت الاستعمار، تم إهمال التراث الثقافي العربي وتم ترويضه أو تجاهله من قبل القوى الاستعمارية. كما تعرضت الآثار والمقتنيات الثقافية العربية للنهب والسرقة خلال تلك الفترة.
ثم أتت التحولات الاجتماعية والثقافية السريعة، التي أدت لتجاهل التراث العربي التقليدي، واعتبرت أن السعي لتبني الثقافات الغربية فقط هو السبيل إلى التطور.
كذلك فإن نقص التمويل والدعم المخصص للحفاظ على التراث العربي وتعزيزه، من مواقع تاريخية، ومتاحف، ومكتبات، ومعارض ثقافية؛ أدى لأن تصبح هذه الأماكن قديمة رثة لا تثير الانتباه.
يضاف لذلك قلة الوعي والتثقيف بشأن أهمية وقيمة التراث العربي المنسي وتجاهله وتهميشه، واعتبار أن تعليم الأبناء من الأجيال الجديدة هذا التراث سيمثل تراجعاً، وحثهم على تعلم المدخلات الغربية فقط، رغم إمكانية تعليم الاثنين ببساطة للحفاظ على التراث والتقدم معاً.
وأخيراً فإن ما قضى على الأمل الأخير في الحفاظ على التراث العربي هو النزاعات والحروب التي شهدتها بعض الدول العربية التي أثرت على التراث العربي بشكل كبير، وأدت إلى الدمار والخراب للكثير من المواقع التاريخية والآثار والتراث الثقافي، وإلى هجرة وتغريب أبناء هذه الدول.
ولكن علينا أن نحاول في خضم تسارع العالم من حولنا أن نتذكر من نحن، ونعمل على إحياء وتوثيق تراث العالم العربي المنسي.
يتطلب ذلك التوعية والتعليم ودعم المؤسسات الثقافية الخاصة والحكومية للحفاظ على هذا التراث وتعزيزه. حيث نعلم أبناءنا الاعتزاز بمعرفة تراثهم، وإقامة المعارض الفنية لعرض الفنون التقليدية العربية لجذب الاهتمام لهذا التراث.
يمكننا كذلك استخدام التكنولوجيا الحديثة لتوثيق ونشر التراث العربي المنسي. حيث إنشاء قواعد بيانات رقمية لتسجيل وحفظ المعلومات والمواد الثقافية المتعلقة بالتراث العربي. وتطوير تطبيقات الهواتف المحمولة والمنصات الإلكترونية لتوفير موارد ومعلومات حول التراث العربي المنسي بشكل مباشر ومتاح للجمهور العام.
علينا السعي لتدريس التراث العربي في المدارس والجامعات، وتشجيع الأبحاث والدراسات الأكاديمية في هذا المجال. وكذلك دعم الفنانين والكتاب والموسيقيين العرب الذين يعملون على الحفاظ على هذا التراث وإحيائه، من خلال إنتاج أعمال فنية وأدبية وموسيقية تستلهم من تراثهم الثقافي.
في النهاية
علينا أن ندرك أن هذه ليست دعوة لتتراجع، بل لا تناقض بين التطور والتأقلم مع المجتمع الحديث، وفي الوقت ذاته الحفاظ على تراثنا العربي، فيجب أن ندرك أن تراث العالم العربي المنسي هو جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني ككل.
يجب أن نسعى لاستعادة وتعزيز هذا التراث وإدراك قيمته وأهميته الثقافية والتاريخية، حيث يمكننا الحفاظ على هذا التراث للأجيال القادمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.