تعاني السلطة الفلسطينية منذ سنوات طويلة من أزمة مالية طاحنة، أثرت سلباً على الخدمات التي تقدمها من خلال المؤسسات التي تدعمها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكذلك دفع مستحقات موظفيها المدنيين والعسكريين كاملةً وعمل سفاراتها في الخارج، لكن دائماً ما كانت تجد "المُنقذ" في اللحظة الأخيرة الذي يساعدها على "ترقيع" تلك الأزمة، لكن دون البحث عن حلول جذرية لها.
تُعد ظاهرة الاستقالات ظاهرة جديدة أخرى تعكس الوضع الاقتصادي الصعب في رام الله، ويتمثل ذلك في إقدام عدد كبير من عناصر جهاز الأمن الفلسطيني على تقديم استقالاتهم من الخدمة العسكرية، والبحث عن عمل آخر، بسبب تلقيهم خلال الأشهر الأخيرة 80% فقط من رواتبهم؛ ما أدى إلى تراكم الديون المالية عليهم، ونتيجة لذلك أغلقت البنوك حساباتها.
السلطة الفلسطينية تواجه خطر الإفلاس بعد الأزمة المالية التي تفاقمت نتيجة اقتطاع إسرائيل ما يعادل 11 مليون دولار أمريكي من أموال السلطة بشكل مستمر كل عام، حيث تجد صعوبة خانقة في دفع مستحقات موظفيها، فضلاً عن سائر المتطلبات المالية الأخرى، بعد "الضربة" التي تلقتها من وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الذي أمر بحجز أموال المقاصة وتحويل إيراداتها لصالح متضرري العمليات الفلسطينية. الديون المالية للسلطة الفلسطينية تضخمت بشكل رئيسي نتيجة اقتطاع إسرائيل ما معدله 40 مليوناً (نحو 11 مليون دولار أمريكي) من أموال السلطة الفلسطينية، بشكل مستمر كل عام، فضلاً عن انخفاض المساعدات المالية الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية بشكل حاد كل عام أيضاً.
عقبات في إمكانية تطوير المشاريع الاقتصادية والموارد المالية، حيث "عجز" الرئيس محمود عباس عن إيجاد حلول للخروج من الأزمة، حتى أصبح الإفلاس "مصيراً محتوماً"، إن إعلان كيان اقتصادي إفلاسه يعني أنه لم يعد قادراً على الوفاء بالتزاماته تجاه الأطراف المتعاقدة معه، فيما تصبح الديون المستحقة عليه محل تفاوض لإعادة هيكلتها والوفاء بها جزئياً أو كلياً. المعنى العملي للإفلاس لا يغير من واقع السلطة الفلسطينية شيئاً، كذلك فإنها لا توجد عليها أي التزامات تجاه الدول، فكل ما عليها اقتراض داخلي والتزامات محلية، ولن يكون وضعها مثل اليونان، على فرض إعلانها للإفلاس.
السلطة الفلسطينية تعيش الظروف نفسها، ولم يطرأ أي جديد على الأزمات التي مرت بها منذ تأسيسها، فيما لا يحمل إعلان الإفلاس أو الحديث عنه أية دلالات عملية أو تداعيات محلية أو دولية على "مكانة فلسطين المالية". لا توجد نية لدى السلطة الفلسطينية أو حتى بوادر لدفعها نحو إعلان الإفلاس، حيث إن المتضرر من هذا الإعلان (في حال تم) سيكون البنوك والموظفين والقطاع الخاص، الذي له حقوق ومتأخرات على السلطة الفلسطينية، والسلطة ليست في وارد هذا الموضوع أصلاً.
ما يروج من شائعات حول إعلان الإفلاس إنما يندرج ضمن خطط الاحتلال الرامية للتضييق على شعبنا مالياً واقتصادياً وسياسياً وتقويض آماله بالحرية. إن الحكومة قادرة على الاستدامة المالية وفق الوضع الحالي، وهي بحاجة إلى التقشف وتحسين الجباية وبدائل أخرى، لاستمرارها، رغم أنها لم تبذل جهداً كافياً لتحقيق هذا الأمر حتى الآن.
إذا استمرت "إسرائيل" بالتضييق المالي عليها، واستمر الاقتطاع من أموال المقاصة (وهي الضرائب التي تجبيها "إسرائيل" نيابة عن السلطة الفلسطينية على المعابر الفلسطينية، ثم تعيد تحويلها للسلطة الفلسطينية عبر آلية تسميها المقاصة)، وبالتالي تفاقمت الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية. من مصلحة "إسرائيل" أن تظل السلطة الفلسطينية في ضائقة مالية عاجزة عن الإيفاء بمتطلبات الفلسطينيين، حتى تظل قادرة على ابتزازها سياسياً، والحصول على مكاسب أمنية من الفلسطينيين بشكل دائم.
فإن الخروج من حالة العجز الحالية تتطلب اللجوء إلى خيارات سياسية واقتصادية صعبة، تحتاج إلى التحمل والصمود، مثل ترشيد النفقات وتخلي المسؤولين عن الكثير من الامتيازات التي يتمتعون بها.
في تقرير نُشر موخراً، وضح أن الديون المالية للسلطة الفلسطينية تضخمت بشكل رئيسي لسببين رئيسيين هما أوَّلاً استقطاع إسرائيل ما معدله 40 مليون شيكل (نحو 11 مليون دولار أمريكي) من أموال السلطة الفلسطينية بشكل مستمر كل عام، وثانياً انخفاض المساعدات المالية الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية بشكل حاد كل عام أيضاً.
وفي الوقت الذي أخذ فيه الخط البياني للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي يتجه صعوداً، كان الخط البياني لأداء السلطة الفلسطينية ينحدر نزولاً، إلى أن وصلت بها الأوضاع إلى مستوى شديد التدني، فقدت فيه القدرة على اقتراح أي مشروع "وطني" للخلاص، لكن يبدو المشهد السياسي الممتد ما بين مقر رئيس الحكومة الفلسطينية في رام الله، وديوان الحكومة الإسرائيلية، ومقر رئاسة صندوق النقد الدولي شديد الغرابة، خاصةً في ضوء التضييق الاقتصادي الإسرائيلي على السلطة، الأمر الذي يطرح في الفضاء السياسي العديد من علامات الاستفهام حول مضمون السلطة الفلسطينية ووظيفتها، وحول طبيعة العلاقة التي تربطها وتل أبيب!
وكانت الدول العربية قد تعهدت بتوفير شبكة أمان مالية للسلطة بقيمة 100 مليون دولار شهرياً، في حال أقدمت إسرائيل على احتجاز أموال الجمارك. وكان طلب توفير شبكة الأمان المالية للسلطة في قمة بغداد قد تمت الاستجابة له في 3 اجتماعات لوزراء الخارجية في مصر والدوحة، لكن لم تفِ هذه الدول بتعهداتها حتى الآن، وربما يعود ذلك إلى التهديدين الأمريكي والإسرائيلي للحكومات العربية، لعدم تقديم أي مساعدة مالية للفلسطينيين. لقد عانى الاقتصاد الفلسطيني من صدمة عميقة، نتيجة الانخفاض الكبير والمتتالي لهذه المساعدات، فقد بدأ حجمها في الانخفاض بعد عام 2008، الذي وصلت فيه إلى أقصى مستوى لها، وبمبلغ 1978 مليون دولار، واستمرت في تراجعها إلى أن وصلت إلى 665 مليون دولار عام 2018، وبنسبة تراجع بلغت 66%.
لقد انعكس هذا التراجع في حجم المساعدات على نسبة مساهمتها في الإيرادات العامة، الذي تراجع أيضاً تراجعاً حادّاً خلال السنوات العشر الأخيرة. فقد بلغت هذه النسبة 53% عام 2008، وبدأت بالتراجع سنة بعد أخرى إلى أن وصلت إلى 16% عام 2018.
كذلك تراجعت نسبة المساعدات الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي من 32% عام 2008 إلى 5% فقط عام 2018.
وقد يعتبر تناقص الاعتماد على المساعدات وتراجع مساهمتها في الإيرادات العامة ميزة تسعى لتحقيقها السلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك صحيح إذا تزامن مع تعزيز للقدرة الذاتية للاقتصاد، التي تعتمد على قطاعات إنتاجية قوية وقطاع تجاري تصديري يخدم هذه القطاعات، وحيث إن ذلك لم يحدث في ظل منظومة خبيثة من الإجراءات الإسرائيلية التي تقوض باستمرار تعزيز هذه القدرة الذاتية، فإن هذا التراجع للمساعدات أثر سلباً على الاقتصاد الفلسطيني، حيث انعكس ذلك فوراً على نمو الناتج المحلي الذي اتسم بالتقلب، كونه مرتبطاً بالأحداث السياسية ودعم المانحين، الذي كان يتعذر التنبؤ به، وخارج سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية، كما أشار تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وتتجلى هيمنة الجانب السياسي على النمو الاقتصادي الفلسطيني في أن فترة الاستقرار النسبي التي امتدت من 1995 إلى 1999 شهدت أقوى أداء اقتصادي، بينما سبقت جميع فترات الانكماش الاقتصادي (2000-2002، 2006، 2014) مواجهات عسكرية.
وقد تأثر النمو الاقتصادي خلال الفترة (2015-2018) بتراجع حجم المساعدات المستمر في سياق تصعيد إسرائيلي سياسي ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، كان آخرها الخصم الجائر من أموال المقاصة، خصوصاً في العام 2019، وما ترتب عليه من توقف السلطة عن تسلمها لمواجهة هذه القرصنة الإسرائيلية، التي جاءت وقد أنهى الاقتصاد الفلسطيني العام 2018 بمعدل نمو سالب بلغ 0.7%، متأثراً بحالة الركود الشديد في قطاع غزة، حيث تراجع معدل النمو ليصبح سالباً وبنسبة 7%، بينما تراجع في الضفة الغربية إلى 3%.
أسهم كل من الاعتداءات الإسرائيلية العسكرية على قطاع غزة، والانقسام، ومن ثم تردي الأوضاع الإنسانية، في تشتيت الدعم العربي، إذ دأبت قطر على تقديم الدعم لحركة حماس، التي تمثل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، من خلال دعم البنى التحتية والمساهمة في إعادة الإعمار بحوالي 500 مليون دولار، وإنشاء مدينة سكنية سُميت على اسم أمير دولة قطر السابق "مدينة الشيخ حمد". وكذلك أسهمت الكويت بحوالي 250 مليون دولار لإعادة بناء البيوت المهدمة كليّاً في قطاع غزة. ورغم أن هذه التبرعات السخية موجهة للشعب الفلسطيني، فإنها في النهاية بعيدة عن الموازنة العامة الفلسطينية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.