إن النفس الإنسانية السوية تأبى العدوان وممارسة الكراهية والإهانة والتجريح للنفس أو للغير أو لمقدساتها؛ إذ طبعت تلك النفس على تجنب الفاحش من الفعل والقول، ومن ثمَّ فإن الإساءة إلى أديان الآخرين تخلّ بذلك الاحترام وتمثل تعدياً صارخاً على القيم الإنسانية النبيلة، وتؤدي إلى حدوث صراعات ونتائج سلبية غير محمودة النتائج بين أصحاب المعتقدات المختلفة، وجميع الحضارات الراشدة تنبذ الكراهية العنصرية والدينية؛ لما يمكن أن تسببه من مآسٍ، وتجرم التشريعات الجنائية في الدول الإسلامية أفعال الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية، والحض على الكراهية الدينية، سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل. وكما لاحظنا جميعاً فقد تكررت أفعال التعدي على المقدسات الإسلامية في العديد من الدول الأجنبية، وبات الساسة الغربيون والمنظمات الدولية يتناولون تلك الأفعال بالحديث عن حرية الرأي والتعبير، وبالتغاضي أو التنصل من مسؤولية دولهم عنها تارةً أخرى.
لقد شاهدنا خطاب الكراهية والعدوان المتنامي ضد الإسلام وما يمثله، وكان من أبرز ملامح هذا الخطاب قولاً وفعلاً ظاهرة الرسوم المسيئة في الدنمارك، وظاهرة حرق المصحف الشريف في السويد وغيرها من الدعوات التي تستهدف الإسلام كفكر ودين بكل عناصره ورموزه وأشخاصه، في محاولة واضحة لعزل الأقليات المسلمة في أوروبا والتأثير عن دورهم في المجتمعات هناك. تلك الأفعال، كإحراق المصحف الشريف أو الرسوم المسيئة لنبي الإسلام (عليه الصلاة والسلام) أو تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يعتبرها أصحابها والمدافعون عنها حقاً أساسياً من حقوق الإنسان وهو حق التعبير عن الرأي، إذ ينص القانون السويدي على كفالة حرية التعبير عن الرأي ونشر الأفكار بغض النظر عن فحواها.
في أوروبا الحرية الفكرية لا تبنى إلا على ازدراء الأديان
بتلك الذريعة استخدم رئيس وزراء السويد، أولف كريسترسون، في رسالة وجهها للمسلمين حول العالم، الأحد 22 يناير/كانون الثاني؛ حيث أعرب في بيان نشره على الحساب الرسمي لرئاسة الوزراء السويدية، عن "تضامنه مع كل المسلمين الذين شعروا بالإساءة إزاء ما حدث في ستوكهولم"، مضيفاً أن "حرية التعبير جزء أساسي من الديمقراطية، لكن ما هو قانوني ليس بالضرورة أمر ملائم". لكن لا أرى أي تضامن في هذه التصريحات مع المسلمين ولا حتى احتراماً لحرية الرأي و القوانين، فطبقاً للقانون السويدي الخاص بحرية التعبير، لا يُعتبر ذلك قانونياً إذا كان ذلك التعبير عن الرأي يمثل إساءة لسمعة و/ أو حقوق الآخرين، كما أنه لا يكون قانونياً أيضاً عندما يستخدم للتحريض ضد الجماعات العرقية و/ أو الأقليات وغيرها، ولا شك أن هذه الحالات تنطبق على ما حدث من حرق المصحف.
تشكل تلك الأفعال الصادرة من الأفراد الحاقدين والمحمية بحجج ومبررات واهية تحت بند حرية الرأي والتعبير من الدول الغربية تحريضاً واضحاً على الكراهية الدينية وخروجها عن المبادئ التي تضمنتها القرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة ولجانها الفردية بشأن مكافحة ازدراء الأديان، بل إن بعض الاتفاقيات الدولية تخول للدول المتضررة الالتجاء إلى محكمة العدل الدولية لمطالبة الدول التي تقع مثل هذه الإساءة على أراضيها بالتدخل لحظرها.
دور الدول العربية والإسلامية لوقف تدنيس المصحف
هنا تأتي مهمة واجبة على الدول العربية والإسلامية القيام بها من خلال وضع استراتيجية محددة وواضحة المعالم للتصدي لجميع صور الإساءة للدين الإسلامي، ومحاولة الاستفادة من الآليات المتاحة بموجب ميثاق الأمم المتحدة وسائر الوثائق المشار إليها، والتي يمكن بمقتضاها مساءلة الدول المعنية عن الإخلال بالتزاماتها الناشئة عن تلك الوثائق والمبادئ في حالة امتناعها أو تقاعسها عن نبذ وحظر أي إساءة موجهة إلى الإسلام ورموزه وعناصره وأفراده، وهذا ما قامت به باكستان من خلال طلب للأمم المتحدة لعقد جلسة لمناقشة المسألة نيابة عن الكثير من أعضاء منظمة التعاون الإسلامي.
مما دفع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لعقد جلسة طارئة هذا الأسبوع لمناقشة حرق المصحف وما يمكن اتخاذه عبر إجراءات قوية لمواجهة الهجمات الموجهة إلى الإسلام والمسلمين، لتكريس حقوق الإنسان التي كثيراً ما دعت إليها الدول الغربية. كما دعت منظمة التعاون الإسلامي، الأحد 2 يوليو/تموز 2023، إلى اتخاذ "تدابير جماعية" ضد تكرار تدنيس المصحف وشددت على "ضرورة تطبيق القانون الدولي لحظر الكراهية الدينية، وبدعم الدول العربية والإسلامية عن طريق ممثليها في الأمم المتحدة يمكن أن يتم تكريس اتخاذ تدابير مستمرة وقوية في هذا الشأن، وهذا ما أكده الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي، حسين إبراهيم طه في خطابه الأخير.
تتنوع وتتعدد خصائص القرآن الكريم بتعدد وتنوع زوايا النظر، وتنوع المتدبرين، وهي غير قابلة للحصر؛ لأن القرآن مطلق، والإنسان نسبي، وليس من شأن النسبي أن يحيط بالمطلق؛ لذا من واجب المسلمين والدول الإسلامية اليوم الدفاع عن المصحف الشريف ومواجهة خطاب الكراهية قولاً وفعلاً، وما يمثل الحضارة الإسلامية من مكونات ورموز وعناصر، والقيام بالدور المناط على أتم وجه، وإبراز النور في معالم الرسالة المحمدية للبشرية جمعاء وأنها رسالة وحضارة تتوق لها الأنفس وتنجو بها الأمم فتسلك طريق النور والتقدم، وتحقق التوازن وتمارس منهج الرشد والوسطية.
فقد أنزل الله تبارك وتعالى على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصحف الشريف (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، خطاب لا كأي خطاب، فهو خطاب عالمي معجز متحد مطلق، وإن كان قد تنزل بلغة عربية لفظاً إلا أنه مطلق في معانيه، ومحيط شامل يستوعب الإنسان والكون، ويستجيب لما كان من حالات تاريخية سابقة، ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور، ومنه نستقي قوانين الحرية و مضمونها النقي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.