"الخِلفة مقبرة العلاقات.. تنتهي الحياة بعد الإنجاب.. أكثر ما أخافه إذا اضطررت لإنجاب طفل، هو عمري الذي سيضيع بعدها".
صدرت تلك التصريحات على لسان البلوجر شفيقة شامل، من خلال أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة، وكان من المتوقع أن تُثير آراؤها تلك الكثير من الجدل، والذي ظهر في تعليقات القرّاء الغاضبة على فيديوهات ذلك اللقاء.
استمعت جيداً لكلمات شفيقة الهادئة والواثقة، والصريحة جداً بلا خجل، وهي تتحدث عن عدم استطاعتها، وعدم رغبتها في نفس الوقت، في أن تعتني بإنسانٍ آخر، وأن تبذل له من صحتها ووقتها ومالها في سبيل أن يحيا ويكون لها ابناً أو بنتاً.
عكس الكثيرين ممن انتقدوا شفيقة أو حاولوا إقناعها بعكس ما ترغب لشكل حياتها الذي يخصها وحدها، فأنا أحترم صدقها مع نفسها، وأحترم معرفتها بقدراتها النفسية، وقبل كل ذلك أحترم رغبتها الحرّة في أن تفعل ما تشاء في حياتها، طالما لا تضر بغيرها.
المشكلة هنا ليست في شفيقة وغيرها ممن يرفضون أن ينجبوا لأسبابٍ تخصهم هم، المشكلة الحقيقية في هؤلاء الجماعة، الذين يرفضون فكرة الإنجاب بشكل عامٍ لأسباب أعمق وأخطر، لأسبابٍ فلسفية في الواقع، ويدعون الجميع لأن يحذون حذوهم، وهم من يُطلقون على أنفسهم "اللاإنجابيون".
أصحاب ذلك الفكر يؤمنون بأنّ الإنجاب في حد ذاته هو جريمة أخلاقية. ذلك الوصف القاسي والظالم في نظري، هو تحديداً ما جعلني أكتب هذا المقال، في محاولة منّي لفهم وتفنيد تلك الآراء، وتوعية النّاس بذلك التوجه الفكري الغريب.
اللاإنجابية قديماً وحديثاً
"فُرضت علينا الحياة، ولن نفرضها على أحد".
هذا هو الشعار الذي يتبنّاه ذلك الفكر الجديد على مجتمعاتنا العربية والذي له أكثر من اسم، الفكر اللاإنجابي، أو من هم ضد التناسل، أو حركة مُناهضة الولادة، أو أصحاب حركة الانقراض الطوعي للبشر، والتي تدعو إلى إيقاف "جريمة الإنجاب" كما أطلقوا عليها، بهدف أن ينقرض الجنس البشري من على الأرض.
أتذكر الآن أنّ أول من أثار انتباه الرأي العام لحركة اللاانجابية، هو ذلك الرجل الهندي الذي قرر مقاضاة والديه في عام 2019، لا لشيءٍ سوى أنهما أنجباه للعالم، وهو لم يكن يرغب في ذلك.
تلك القضية الأشبه بمزحة سخيفة لأغلبنا، هي فكراً وفلسفة يزيد عدد أصحابها يوماً بعد يوم للأسف.
عن نفسي، أعتقد أنّ الفنان الراحل عبد السلام النابلسي، كان لاإنجابياً، حتى وإن كان هو نفسه لا يدري معنى تلك الكلمة، ففي أحد لقاءاته التليفزيونية، وصف عملية إنجاب الأطفال وصفاً صادماً بعض الشيء، وهو أنّ إنجاب الأطفال بمثابة إضافة هم جديد للشخص نفسه، وللعالم ككل، وأنّ الشخص الذي يُريد الإنجاب هو شخص أناني، لأنّ الكون لن يحتمل مزيداً من البشر.
تلك الكلمات التي يغلب عليها التشاؤم واليأس، هي نفسها الكلمات التي يُرددها اللاإنجابيون على المواقع الإلكترونية وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، والتي اضطررت أنا لتصفحها والانضمام إلى جماعاتها المُغلقة، كي أفهم الفسلفة التي تقبع خلف تلك الآراء الحادة والسوداوية بشكلٍ مُقبضِ في الحقيقة.
لماذا لا يُريد اللاإنجابيون إنجاب الأطفال؟
"ما الذي يُمكن أن يَكون أكثر بشاعةً وفُحشاً، من امرأة تَحملُ في بَطنِها "مُتفاخرةً" جُثّة مُستقبليّة؟"
هكذا يرى اللاإنجابيون الأطفال، جثتٌ مُستقبلية، لذلك كان من الطبيعي أن يتهمونا بأنّنا مجرمون، في حق من أنجبناهم، وفي حق العالم ككل.
لم يكتفِ اللاإنجابيون حول العالم، بأنّ يُقدموا أسبابهم العديدة لإقناع الآخرين بفكرهم، بل قدّموا دليلاً لمناهضة الإنجاب، وهو ما يعني مقاومته، وفيه 60 رداً على 60 عُذراً للإنجاب، ويقصدون بالأعذار هنا، الأسباب الطبيعية التي يذكرها الناس عادة لرغبتهم في الإنجاب، وبعض الادعّاءات الأخرى التي يردّون بها على من يُهاجم قضيتهم.
شغلتني تلك المسألة، ووجدت نفسي أبحث أكثر وأكثر وراء أسبابهم، التي كان بعضها فكريّ، ويتلخص في أنّنا حينما ننجب طفلاً فإنّا نُعرضه للألم والمعاناة والمرض ثم الموت، ومنها ما هو مادّي بحت، كتأثير زيادة المواليد على الكرة الأرضية التي لم تعد تحتمل بشراً أكثر وتلوثاً أكبر ونقص في الموارد وغيرها، وبعضها فلسفي أشبه بالسفسطة التي لا تقود إلى شيء، كالقول بأننا يجب أن نأخذ موافقة الطفل الذي نُريد أن نُنجبه قبل أن نفعل، لمعرفة ما إذا كان يرغب في الحياة أم لا.
هذه الأسباب دفعتني دفعاً للرد عليها من وجهة نظري الشخصية، بداية من الجانب الفكري والذي لا يخلو من فلسفة أيضاً، والذي يؤمن فيه اللاإنجابيون بأنّ العالم قاسٍ، وأنّ المعاناة حتمية، وأنّ النهاية هي الموت.
ووجدت أنّ.. أولاً: المشكلة التي لاحظتها بشدة في الفكر اللاإنجابي على تشعّب أسبابه، أنّه فكر عبثي مُتطرف، أصحابه لا يرون من الواقع إلا أسوأه، حتى إنّهم لا يرون في الحياة إلا الموت، مهما طالت، ومهما بلغ فيها الإنسان من نجاحات، ومهما نال الإنسان فيها من الرضا والسعادة والاكتفاء.
نعم سنموت كلنا في النهاية، ولكن من افترض أنّ ذلك يعني أنّ حياتنا بلا جدوى؟
لماذا يفترض أصحاب ذلك الفكر بأنّ الحياة عبث، بلا جدوى وبلا معنى، لا يرون فيها سوى الألم والمعاناة؟
لأنّ الوجود عبثيّ ولا معنى له: إن وجود الإنسان في هذا العالم أمر عبثيّ جدّاً لا معنى له، ومن العار أن نقذف بأطفال أبرياء إلى عالم مُوحش لا ندري الغاية من وجوده أصلاً..
ثانياً: المشكلة الأكبر والأخطر لدى الكثير من اللاإنجابيين بحسب ما قرأت، هي أنّهم لا دينيين، أي أنّهم لا يؤمنون بوجود خالق للكون، ولا يؤمنون بالدين من الأساس.
أما من يؤمن منهم بوجود الله، حتى وإن كانوا مُسلمين، فهم لا يُدركون حقيقة مُراد الله منهم، ومن خلق الإنسان بشكلٍ عام، بدءاً بسيدنا آدم عليه السلام، كخليفة الله في الأرض.
الفلسفة اللاإنجابية المُثيرة للشفقة
"أن تُنجب طفلاً إلى هذا العالم، يعني أنْ تختلق مُشكلاً من العدم! أن تصْنعَ قنبلة موقوتة من الجوع والوهن والضعف والحزن والألم! أنْ تُعرّضَ كائناً جديداً إلى كلّ الاحتمالات القاسية الممكنة!"
على قدر قسوة الكلمات وكآبة معانيها، على قدر ما أُشفق على كاتبها، وعلى كل من هو مؤمن بها. هؤلاء ممن اختزلوا الحياة في جانبها المُظلم، وتجاهلوا أنّ لكل المشاعر المؤلمة التي ذكروها وجهاً مضاداً، من الشبع والقوة والفرح واللذة وغيرها الكثير.
ساذج من ظنّ أننا خُلقنا للراحة والسعادة كي نحيا مُخلّدين في أمان، ويؤوسٌ من ظنّ أننا خُلقنا للشقاء والألم ومن بعدها نموت بلا أية معنى لتلك الحياة البائسة.
من يؤمن بالله إيماناً حقاً، سيرى الحياة على حقيقتها، كما في حديثٍ رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يقول فيه:
"إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ، وإنَّ اللهَ مُسْتخلِفَكم فيها فَيَنْظر كيف تَعمَلون".
هذه الدنيا كان ولا بدَّ أن تحمل من كل شيءٍ عكسه، ابتلاءً وتمحيصاً، وسنُجازى خيراً في الآخرة عن كل ذرة معاناة أو ألمِ، هذا هو ما أؤمن به حقاً.
جريمة الولادة في حق كوكب الأرض
"أغلب الناس اليوم ممن ليس لديهم أطفال، يودون الإنجاب. لماذا؟
حتى من لديه أطفال، منهم من يود إنجاب أكثر. لماذا؟
لماذا نريد إضافة المزيد للسبع مليارات الذين يسكنون العالم؟"
يتحدثون اللاإنجابيون في هذه النقطة، وكأنّ الأمر الطبيعي في الحياة هو عدم الإنجاب، برغم أنّ العكس هو الصحيح، فالرغبة في الإنجاب هي الفطرة الطبيعية التي فُطر الناس عليها، كالرغبة في الزواج. لا أعني أنّها شهوة، ولكنها عاطفة قوية، يُعزّزها جسدا الرجل والمرأة، وإلا فلماذا تولد أغلب النساء برحمٍ إذن؟ ولماذا يحتوي جسد الرجل على حيوانات منوية؟ ولماذا يُفرز جسد النساء بويضات كل شهر منذ البلوغ وحتى انقطاع الطمث؟
ألا يدل ذلك على أنّ عملية خلق الطفل وبالتالي الولادة، هي عملية طبيعية جداً، تحدث بدون تدخل من الرجل والمرأة حتى، بمجرد ممارستهما للعلاقة الجنسية، وأنّه إذا لم يُرد الرجل أو المرأة أن يُنجبا، فإن هناك عدداً من الإجراءات التي يجب اتخاذها، والتي يُحتمل مع ذلك أن تفشل، وتحمل المرأة رغماً عنها.
أما عن قولهم بأنّ كوكب الأرض لا يحتمل المزيد من البشر، فذلك أمرٌ لا يُمكن التنبوء به أو افتراض صحته، والأولى أن نتكاتف للحفاظ على البيئة بشتى الطرق، ومن بينها تنظيم النسل لا منعه بشكلٍ مطلق، ودعونا لا ننسى أنّ الكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة، تقضي على ملايين البشر سنوياً، هذا هو ديدن الأرض منذ أن خلقها الله.
"فُرضت علينَا الحياةُ فرضاً، بالإكراه، دون مساءلة أو مناقشة أو أي حقّ في الاعتراض"..
أما عن تلك الحُجة الواهية، والمُضحكة في الحقيقة، والتي يستدل بها اللانجابيون على منع الإنجاب، فسأرد عليهم بطريقتهم: وماذا عن الموافقون على المجيء بهم إلى هذا العالم؟
كم عددكم يا من ترفضون الحياة؟ ما أنتم إلا قلة قليلة، أما السواد الأعظم فهم منّا، من هم ممتنّون لأنّهم عاشوا حقاً، ومن هم يؤمنون بأنّ مجيئهم إلى الحياة لم يكن صدفة، وله مغزى وهدف أكبر.
لو عملنا بنصيحتكم -غير الممكنة- فلن نُنجب أبداً، لأننا لن نستطيع أخذ موافقة أطفالنا قبل أن نُنجبهم، فماذا عن هؤلاء المحرومين الذين أرادوا الحياة وانتهى بهم الأمر إلى العدم؟ ماذا ستخبرونهم أنتم حينها؟
ليس من حقكم أن تُنهوا حيوات كان من المفترض أن تعيش، لأنكم رأيتم العالم على غير حقيقته، والأهم أنّكم لم تعرفوا الله حقاً للأسف.
من جديد أجد نفسي أُشفق على من يتبعون تلك الأفكار على تطرفها ذلك كما ذكرته، وأحترم في الوقت ذاته اختيارات الآخرين على اختلاف مذاهبهم، بشرط ألا تعبث بأفكار الأسوياء الذين يؤمنون بأنّ الدنيا ليست إلا عيش زائل، وأنّ العيش هو عيش الآخرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.