مداواة الحنين.. هل يُشفى المرء من فقدان الدار؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/07/05 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/07/05 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
الغربة / shutterstock

ما هي الديار؟ لا أنفك بحثاً عن إجابة لهذا السؤال الذي أرهقني طويلاً. بحثتُ في كل مكان واستعنت بجميع مشاعري، لكن لا أعلم حقاً إن كانت الراحة ستسكنني عند الوصول إلى حقيقة الجواب أم لا؟ لا أمل كثيراً، فيبدو لي أنها رحلةٌ طويلة من الألم والتعب، ولا تنتهي إلا بانتهاء حياتي.

في طفولتي، لم أتساءل حينها أبدًا عن ماهية الديار أو معنى الغربة، فذلك المنزل الجميل المكون من ثلاثة طوابق ذو الطلاء الرمادي كان يحتضني، بداية من بابه والشجرتين المغروستين في الأرض بيدي الصغيرتين اللتين تحتضنهما يد جدي، وصراخ أمي على ما تبقى في يدي من طمي الأرض، وصولاً للأرجوحة المصنوعة يدوياً، التي لطالما كنت أستخدمها للتأرجح على الشرفة الأمامية ناظراً لأزهار الكرز التي تملأ الشرفة.. لمدة خمسة عشر عامًا، كان ذلك في ذهني بلا شك.. الديار.

تمر الحياة، ورغم إدراكنا ذلك، نعيش في وهم المفاجأة، لكن أعتقد أنه الشيء الذي يبقى مشاعرنا على قيد الحياة. فالمكان الوحيد الذي عرفته على الإطلاق باسم الديار سرعان ما تم عرضه علي السوق لزوجين ما زالت تفوح منهما رائحة السعادة، كانا شابين في مقتبل العمر لم تجرعهما الحياة من الكبد الكثير بعد. عندما بدأ طفلهما الصغير في تفريغ متعلقاته أدركت حينها أن الديار التي تعرفني قد غادرتني للأبد. 

من بعدها، لم يفارقني الشعور بالضياع، وتحديداً السنوات الست الماضية. فمنذ حملت غربتي بجانب أحلامي في الحقيبة ورسوت على شواطئ إسطنبول قبل الانتقال لمدينة قيصري بغرض الدراسة، هجرتني تلك الأحاسيس بالراحة وآمال العودة الهادئة إلى الديار يوماً ما.

بعد أن أنزلني سائق الباص أمام الجامعة، وأتممت تسجيلي في القسم، تجولت في المدينة قليلاً وأدركت يومها أن عليَّ تجاهل بعض مشاعري في اختيار الأشياء، فلن أختار غرفتي؛ بل هي من ستحدد بناء على السعر ومدى اقترابها من الجامعة والمواصلات العامة.

مما فتح عينيَّ على حقيقة بعد ذلك بسنوات، في الغربة لا يمكنك أن تدعي أمتلاكك لشيء، لا الغرفة، لا المدينة التي تعيش فيها، فالأولى غداً يسكنها غيرك، والثانية سيغادرها أصدقائك كل إلى طريقه بعد أن تعالت ضحكاتهم في شوارعها فرحاً بالتخرج.

وقد شرح عالم الاجتماع زيجمونت باومان حال الغرباء في المدنية، وكيف أن حياتهم وخبراتهم تختلف عن أهل المدينة وأهل المحيط الاجتماعي، فهم "يجتمعون وينصرفون دون ذكريات مشتركة، ينخرطون في أحداث بلا ماضٍ وبلا مستقبل، ضمن حكايات لا يُكتب لها الاستمرار، يقتنصون كل الفرص المتاحة دون توانٍ، فوقت اللقاء لا مجال للتجربة والخطأ، ولا استفادة من أخطاء، ولا أمل في لقاء آخر، وخلال كل هذا الحراك الاجتماعي السائل يحتفظ كل فرد بذاته غريبة عن الآخرين وعن المدينة، ويستمتع بحياة وتجارب بلا ذكريات".

في الغربة تشعر أن الزمن يمضي سريعاً ومعه تمضي الحياة وبينهما تصاحبك المشاعر المرتبكة التي تكاد تصيبك بالاختناق أحياناً، ولن أظلم مدينة قيصرى فقد خصصوا مكاناً لكل شيء تقريباً إلا مداوة الحنين. فما زلت أتخيل بيتي القديم في لحظة الغروب وقد تركت أمي الباب مفتوحاً لتساعدني على العودة إليه دون إزعاج، وأنا عائد من اللعب مع الأصدقاء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سعيد
كاتب وطالب مصري
تحميل المزيد