منذ اللحظة التي شهدت انطلاق مبادرة الحوار الوطني في أبريل/نيسان 2022، أدركت بوضوح أن النظام السياسي في بلادي يواجه أزمة عميقة. فعلاً، لم يكن من الصعب عليّ تحديد ملامح الأزمة الاقتصادية الحادة التي بدأت تظهر منذ أكتوبر/تشرين الأول 2021. شخصياً، توقعت هذا الوضع وعكسته في روايتي "مسبار الخلود"، التي صدرت في يوليو/تموز 2021 والتي أنهيت كتابتها في يونيو/حزيران 2022، بأن النظام السياسي المصري باختياراته الاقتصادية سيمشي في نفس مسارات النظم الاستبدادية التي تتبنى وجهة النظر المؤمنة بأن مقابل استبدادها لابد أن تكون إنجازات اقتصادية على الأرض، وغالباً يكون التعجل والتسرع هو سمة الإنجازات، لكن مع الأسف تأتي الفكرة بعد أن تذهب السكرة!!
في عام 2019 كتبت عن المعجزة النازية التي انتشلت ألمانيا من الكساد الكبير في 1930 (وصل النازيون للمستشارية سنة 1933)، والتي أيضاً خلال 6 سنوات راكمت ديناً عظيماً نظير التشغيل الكامل، وشبكات الطرق الكبرى وإطلاق عملية إعادة التسليح والصناعة، فكان لابد من إطلاق حرب اقتصادية بالأساس: نهب وسلب للجيران، وهو ما بدأ فعلاً بضم أقاليم من تشيكوسلوفاكيا سنة 1938، ثم اندلاع الحرب فعلياً في 1939.
بالعودة للحالة المصرية، فالقوة الذاتية المصرية لا تستطيع استلاب جيرانها ولا مصارعة القوى الإقليمية، ناهينا عن الدولية، إذ إن المشاكل في طريقة الإدارة المصرية هيكلية وعميقة، فلم ينقذ نظام حسني مبارك إلا غزو الكويت بواسطة شريك مجلس التعاون صدام حسين! ولولا غفران نصف الدين الخارجي والمدفوعات الدولارية نظير المشاركة في حرب تحرير الكويت، لكان الاقتصاد المصري قد أفلس تماماً، وللعلم اقترضت الحكومة المصرية من السعد والريان لشراء القمح في سنوات 1986 – 1988.
نظام يوليو 2013، نوّه في أكثر من مناسبة عن دور المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في إنقاذ مصر أو إرساء قواعد النظام الجديد. فبنى النظام المصري حساباته على استراتيجية "مسافة السكة"، والمقصود بها الدفاع عن أمن دول الخليج العربي من إيران تحديداً.
وحتى شهور قليلة مضت ظن كثيرون -حتى أنا- أن التصعيد الأمريكي/الإسرائيلي ضد إيران قد يجلب في الأخير سيناريو إنقاذ اقتصادي مشابه لذلك الذي شهدناه في عام 1990/1991، لكن ولي العهد السعودي قلب كفة كل الموازين، بوساطة صينية (ذات دلالات واسعة) تصالح أو تتفاهم مع إيران، وأصبحت استراتيجية "مسافة السكة" ما هي إلا أحلام يقظة.
مشاريع استبدادية بثمن باهظ
أياً كانت إنجازات نظام يوليو 2013، في تحسين وجه المدن والريف وتحسين الطرق، وبناء سكن بديل للعشوائيات الخطرة (الأسمرات وغيط العنب)، وإعادة تسليح الجيش، كل هذه الإنجازات تأتي بثمن باهظ، حيث بلغت الفاتورة حوالي 7 تريليونات جنيه من الدين الداخلي، وحوالي 300 مليار دولار من الدين الخارجي (دين مدني وعسكري).
بجانب ذلك، تم العصف بالإعلام الحر، وزيادة الاعتقالات والتهم المختلفة والسجن العشوائي لأصحاب الرأي والمعارضين، أما عن المشاكل الهيكلية القديمة (من الستينيات) بالعجز التجاري الباهظ واختلال ميزان المدفوعات، فجاءت ترعى في واديها بالتضخم والغلاء وضعف القطاع الخاص. بينما مازالت الحجج قائمة على جدوى اقتصاديات مشروعات الجيش، الذي كما هو واضح من الموازنات العامة يتصرف وكأنه دولة مستقلة تنفق على نفسها بوسائل لا يعلمها إلا كهنة معبدها، وبعيداً عن أي مراقبة أو مسائلة إلا تلك التي يتمناها الرئيس، وهي محاسبة الملك والمولى سبحانه وتعالى فقط.
خطابات للانصياع دون تفكير
الرئيس منذ منتصف عام 2022 يواصل وصف المرحلة التي نعيشها/سوف نعيشها بمرحلة ما بعد النكسة، وقال تحديداً إن تجاوز آثار النكسة قد استغرق 15 عاماً (1967 – 1982)، وإن علينا أن نتحمل 15 عاماً مثلها -أكيد تحت زعامته وقيادته- للخروج من نكسة 2011.
خلال مناسبات أخرى وبروحه الدينية الوثابة قال إن الرسول والصحابة عاشوا محاصرين في شعاب مكة 10 سنوات حتى أكلوا أوراق الشجر (لاحظوا أوراق الشجر! فلماذا قطعها؟!)، لذا يبدو أننا سنأكل أوراق الشجر حتى نبني الدولة! الدولة والجمهورية الجديدة التي لم يفوّض أحد الرئيس للقيام بها ولكنه موضوع بينه وبين ربه ولا شأن لنا به!!
الخطابات المكتوبة التي يعزف الرئيس عن قراءتها أو يسبقها، أو يليها بخلاصة الحكمة السليمانية، تكون بعيدة عن الخطابات المكتوبة العقلانية والمرتبة، فتأتي ارتجالات الرئيس لتدل على عقلية مصبوبة على الاستلاب والسيطرة، وكأنها خطاب من قائد كتيبة لجنود من حملة شهادات محو الأمية، بل إن الخطاب الإعلامي الزاعق والصاعق هو نفس الذهنية التي تقفز فوق المنطق والتساؤلات والأولويات والجدوى الاقتصادية، مثل أي طابور تلقين أو تعليم لمجندين وليس لمواطنين أحرار! فلا غرابة إذاً أن يصبح المرور على الكلية الحربية شرطاً لالتحاق الموظفين بالوظائف الحكومية، لأن المطلوب من الموظفين هو السمع والطاعة، تماماً كما اتهمنا أتباع جماعة الإخوان بالانصياع التام! فيبدو أننا في لحظة الانصياع والطاعة!
دون أن يدري "زعيمنا الهمام"، صدّر لنا أن الأزمة الاقتصادية التي نعيشها هي في عمق هزيمة 1967، وتتضح آثار النكسة الحالية من خلال البيع الاضطراري لكل الأصول التي يمكن أن تنقذ الجيش من التخلي عن دوره الاقتصادي الضروري له والضار جداً بالاقتصاد الكلي.
التقاليد الديكتاتورية للدولة المصرية
يمتاز النظام المصري بتقاليده وألاعيبه الديكتاتورية الدائمة، فعندما تظاهر طلبة الجامعات ضد النظام في فبراير/مارس 1968 وقمعهم بالقوة، أخرج من جراب الحاوي بيان 30 مارس/آذار، وعندما كان الصراع على التركة على أشده في أبريل/نيسان 1971، أخرج لنا السادات مسرحية ثورة التصحيح في شهر مايو/أيار، أما عندما انهار الاقتصاد على عروشه إبان انتفاضة الخبز في يناير/كانون الثاني 1977 أخرج لنا مسرحيتين، الحرب مع ليبيا في يوليو/تمّوز 1977، ومبادرة السلام مع إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني، وظلت الديون الخارجية تخنق الاقتصاد حتى عام 1980 وما بعده، وهو نفس العام الذي وعدنا فيه السادات بالرخاء.
نفس التقاليد الديكتاتورية والرغبة المحمومة في "إظهار" الإنجازات دفعت مبارك لأزمة ثانية لسعر الصرف في سنوات 2004/2002، وحينها ألصقها بحرب غزو العراق، بينما يجهز ابنه للوراثة على عرش التكية.
أما عن المستقبل القريب، سيحاول النظام السياسي الانفتاح (حوار وطني/مخرجات الحوار/سياسات جديدة)، وربما يحاول النظام التلطف وإعطاء بعض الهدايا. رغم ذلك وإلى هذه اللحظة لا مؤشرات على انفراجة اقتصادية في أزمة خدمة الدين أو زيادة الاحتياطي.
المستقبل القريب للدولة المصرية.. لا حلول سوى المدنية
إن الأزمة الاقتصادية العميقة الحالية لن تزول بخطاب نوايا حسنة أو مذكرات تفاهم أو ببلاغة منشور من تنسيقية الأحزاب، ولا إعادة إذاعة أغاني العبور بمناسبة مرور 50 سنة!
لذا، خطابي إلى كل أفراد الشعب المصري، نحن من ندفع، نحن من نتحمل، نحن من كنا جنوداً في اليمن وفي سيناء قبل النكسات وبعدها، ضد الإرهاب وضد العدوان، نريد أن ننال حريتنا لنبني اقتصادنا، نريد إنهاء قبضة نظام يوليو 1952، ورحيل الضباط من الوزارات والإدارات إلى الثكنات أو المعاش، نريد إدارة اقتصادية عالمية لهيئة قناة السويس ومصر للطيران وشركات البترول والغاز وإدارة الموارد المصرية، نريد مجالس محلية وهيئات برلمانية حرة ونشطة لتراقب وتحاسب من أكبر رأس لأصغر مؤخرة، نريد أن تخضع الداخلية والدفاع والقضاء للقانون المصري والدستور، وأن تعود الهيبة للمؤسسات. نريد مصر أن تقود المنطقة والعالم بالتحول السلمي من اقتصاد العصابات إلى اقتصاد المواطن الحر.
في الريف يستطيع الفلاح تطويع الجاموسة بالعمل بدوران الساقية بحزمة خس مربوطة أمام رأسها، تجري الجاموسة وراء الخسة، فتقضي عمرها كله تكدح في الساقية، في لحظة ما تغمَّى عينا الجاموسة حتى لا تدوخ! لسنا جاموساً وانفتحت أعيننا، لن تدور الساقية كما دارت في يوليو 1952 أو 2013، ولا في يونيو 1967 ولا يونيو 2012؛ فقد انتهى الدرس.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.