يتملكني نوع من القشعريرة عندما أقرأ كلمات تشيزاري برانديلي، المدرب الإيطالي، الذي شعر أن كرة القدم، الرياضة التي أفنى عمره من أجلها، طردته من الملاعب، رافعاً البطاقة الحمراء في وجهه لمرة أخيرة.
يقول في مقابلة مع كوريري ديلا سيرا من يومين: "خلال مباراة سامبدوريا – فيورنتينا، في فبراير/شباط 2021، كنا نسيطر على المباراة، ثم في الدقيقة الـ70، سجَّل كوالياريلا لسامبدوريا. في تلك اللحظة شعرت بإحساس غريب. كنت أتنفس ببطء لمدة 10 ثوانٍ. أعرف تمامااً ما هو مذاق الأدرينالين، ولكن ذلك الشعور كان مختلفاً، شعور غريب أخافني، لأني لم أشعر به من قبل. الشعور بالفراغ، فراغ أسود، دوامة من العدم. ربما هو حب كبير لفيورنتينا، والرغبة في المبالغة في ذلك الحب. لقد تحدثت إلى أشخاص مختصين، يعرفون كيفية التعامل مع هذه المواقف العصيبة. أعطوني هذا المثال: ما مررت به، مثل الجراح الذي يدخل غرفة العمليات كل يوم ولكن عندما يود التحدث لأحد أفراد الأسرة، يتجمد. لن يكون الجراح قادراً بعد ذلك أن يعمل. ذلك الإحساس، من المودة المفرطة، والكثير من الحب، والكثير من المسؤولية، سرق أنفاسي. شعرت أنها كانت إشارة اعتزالي".
تشيزاري رجل صادق مع نفسه.. يُحب فيورنتينا ويشعر بالامتنان الشديد لجماهيره التي وقفت إلى جانبه عندما توفيت زوجته في عام 2007 بعد صراعها مع مرض السرطان.. تلك الزوجة التي قدّم تضحيات من أجلها لا تعني شيئاً مُقارنة بما مرت به، إحداها كان اعتذاره عن تدريب روما في عام 2004 ليكون بجانبها.
حتى اليوم، ما زالت اللافتة التي رُفعت في مدرجات فيورنتينا عالقة في ذهنه: "أنت لست وحدك ميستر" لكن بالحقيقة، يشعر تشيزاري أنه وحيد. فكما يقول المدرب الإسباني بيب غوارديولا، التدريب هي أكثر مهنة ستشعرك بالوحدة. عندما تغلق بابك، لا يوجد سوى أنت ومخاوفك ومشاكلك وقراراتك. وتشيزاري في مرحلة ما، أتاه ذلك الإحساس المخيف، وشعر أن كرة القدم تتعمق في خسارة العلاقات الانسانية، وأن هناك أخلاقيات لم تعد موجودة كذلك، وهي ما كانت تجعل هذه اللعبة مميزة أكثر من غيرها.
في رسالة وداعه لفيورنتينا من عامين، عندما توقف عن التدريب، شارك باعتراف ضمني أن كرة القدم لم تعد تناسبه؛ لأن هذا العالم الذي هو جزء منه يمضي بسرعة، أسرع مما تخيله.. لذلك قرر التوقف عن الانجراف ومحاولة مجاراته، وذلك حتى يجد ماهيته.
عندما سأله صحفي كوريري ديلا سيرا عن معنى ذلك الاعتراف، كان رده عاطفيااً أكثر من الرسالة نفسها: "كنت أشير إلى الأجيال الجديدة. فالأجيال الجديدة لديها طريقة مختلفة تماماً لفهم العلاقة البشرية، والعلاقة بين الفرد والجماعة. لطالما كان سر كرة القدم هو تكوين مجموعة، مجموعة متماسكة تتقاسم الشعور نفسه والأهداف ذاتها. ربما يكون للأجيال الجديدة طريقة مختلفة تماماً في العمل، فأنا لا أقول إنها خاطئة. أنت تتكيف، لكنني دائماً ما أعمل على أساس العلاقات. وعندما لا تعود موجودة، يصبح التدريب مجرد كمبيوتر، عمل بارد، بدون مشاعر، حيث تطغى البيانات على الجانب الإنساني".
وتابع بقوله إن "الشيء المحرج هو أنه عندما تنتهي من التدريب، تدخل غرفة تغيير الملابس ويحمل الجميع هواتفهم. ليست هناك 10 دقائق لنتحدث ونُحلل. لا أعرف كرة القدم هذه. الوضع لم يعد مفهوماً. ينتهي كل شيء عند هذا الحد. رُبما يكون الجيل الحالي أكثر جدية واحترافية منا، لكن لديهم مفهوم مختلف للعمل مجبرون على قبوله.. هذه هي كرة القدم اليوم".
إن الرجال أمثال تشيزاري، ما يُبقيهم أحياء هو الشغف. صديقه كونتي، الذي يتواصل معه باستمرار ليطمئن عليه، شعر أن كرة القدم تُريد أن تُجهز عليه وتقذفه من على حافة الجبل. لذلك قرر أن يستريح ويبتعد عن الأضواء لفترة، لأنه ما يُبقيك حياً قد يكون سبباً في فنائك.
لكن، لا يبدو الأمر كما لو أن تشيزاري فقد شغفه وانطفأ فقط، بل لأن أخلاقيات وقيم كرة القدم اختفت، ولم تعد موجودة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.