وسائل التواصل الاجتماعي في شكلها الحالي خلقت نوعاً من الرقابة الذاتية الديكتاتورية للنفس، في محاولة للتماشي مع الصورة النمطية المبهرة التي تفرضها عن جودة الحياة وطريقة العيش.
السوشيال ميديا جعلت "الصورة" أو "اللقطة" أهم من عيش اللحظة وأهم من الاستمتاع بتجاربنا العادية والإنسانية بشكل طبيعي ومتناغم. فأصبح من الضروري أن تكون لدينا لحظات (مثل تناول الطعام، والشرب، والجلوس في المقاهي، والخروج مع الأصدقاء، إلخ) مرئية وجذابة.
يجب أن يكون حضورك دائماً مرئياً، حيث قد خصصت وسائل التواصل الاجتماعي الصورة كوسيلة لتجسيد الذات. لذلك، أصبحت الصورة بديلاً عن المضمون. بالتالي، فأصبحت الناس تنجذب للصور البراقة ذات الطابع السينمائي المفتعل، ويا حبذا في أماكن فارهة وبورجوازية الطابع.
كل شيء سريع.. كل شيء يجب أن يستهلك
بالنظر لعاداتنا اليومية نلاحظ أن كل الأشياء تتحول إلى ملخص سريع جذاب يسهل استهلاكه، سواء العلوم، المعارف، المشاعر، الحب، الأغاني.
لذلك أنت برغم فرط وكثرة المعلومات وإتاحتها مشتت! وغير قادر على اللحاق بما تريد، بل غير قادر بشكل ما على الإمساك بفكرة متماسكة غير مشكوك فيها.
حياتك تعكس اندفاعك الدائم واستجابتك لسرعة وإيقاع الرأسمالية التكنولوجية. تكون حياتك غير قابلة للهدوء، فهدوؤك واسترخاؤك غير مربحين للعالم. لذلك، يجب عليك استغلال كل لحظة في حياتك حتى في كسلك، بأن تكون متصلاً بتطبيقات التواصل لتراكم المزيد من المال.
تم تحويل حالات الأرق الخاصة بك إلى وسيلة الاستثمار، لذلك تعمل منصات السوشيال ميديا على جعلك غير مشبع دائماً وتحتاج إلى المزيد من اللذة والعاطفة والحياة البراقة التي تراها في الآخرين وتصورهم وطريقة عيشهم.
تم إنشاء تلك المنصات لخلق حالة من الغيرة وزيادة التنافس في الظهور والمقارنة واحتقار الذات، ومحاولة الظهور دائماً بأبهى صورة ممكنة.
وعلى الرغم من أنك قد تكون حزيناً ومكتئباً وبائساً، إلا أن هذه المشاعر الذاتية جداً تم استثمارها في تعزيز الانتماء والتلاحم مع واقع الهزيمة النفسية والانغماس في الحزن حتى الوصول إلى العدمية، في محاولة لزيادة الربح.
كيف نستعبد ذواتنا؟
في نفس الإطار يلقي الفيلسوف الألماني المعاصر ذو الأصول الكورية بيونج شول هان نظرة نقدية شاملة على المجتمع المعاصر من خلال فلسفته ومؤلفاته التي بلغت الآن 16 مؤلفاً، إذ يتضح توجسه تجاه عالم الرقمية بشكل عام.
فيروي السيناريو الذي يراه، حيث تكون الآلات الرقمية والرأسمالية تشكّل تحالفاً فائقاً، ينهك حرية الفرد بشكل كامل؛ إذ يلاحظ أن المنصات التكنولوجية تقوم بتتبّعنا ومراقبتنا والتحكم في سلوكنا من أجل تحقيق أقصى قدر من الربح، إذ تقوم بتسجيل كل نقرة على الحاسوب وتحليلها. بينما نتحرك نحن كالدمى على يد البرامج الخوارزمية، ويبدو لنا أننا أحرار.
إننا نشهد اليوم تناقضاً في فكرة الحرية، إذ تتحوّل إلى عبودية طوعية. فكل نقرة نقوم بها يتم تخزينها، ويمكن تتبع كل خطوة نختارها. نترك آثاراً رقمية وراءنا في كل مكان، وتتأثر حياتنا الرقمية نقطة بنقطة داخل الشبكة. وبالتالي، أصبحت "الحرية في العالم الرقمي وجهاً آخر للقهر، فعدم الوعي بالقهر الذي يفرض على حريتك في التعامل مع هذه الأمور، يعني نهاية الحرية وبداية العبودية".
حيث يتولى رؤساء الإقطاعيات الرقمية مثل "فيسبوك" وغيرهم منح المستخدمين قطعة صغيرة من الأرض للاستفادة منها، ونحن نعمل فيها بكل سذاجة، في حين يأتي هؤلاء السادة لجني الثمار. إن هذا هو الاستغلال التواصلي، نتواصل ونحن نتخيل أننا أحرار، إنه نظام فعّال للغاية، حيث لا يوجد أي آثار لأي احتجاج ضده، فنحن نعيش تحت نظام يستغل الحرية نفسها.
بجانب ذلك، تحوّلت السوشيال ميديا إلى أداة تخلق الجهل المركب، حيث أصبح من السهولة تداول الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة، فتكون موجهة ببراعة لخدمة مصالح الأطراف التي تنشرها بطريقة مغرية وجذابة.
يعلم صانعو هذه الأخبار أن المتلقي لن يبذل جهداً في البحث عن مصدرها الحقيقي أو السعي للوصول إلى مصادر بديلة. وبالتالي، انتشرت فكرة مشوهة عن الحقائق التاريخية، حيث يتم التعامل معها بشكل رديء ومشوه، وبدلاً من الاجتهاد لإبراز الحقيقة وطرح التاريخ في أطر عدة، أصبح الاعتماد على الصورة والفيديو كحجة وثقافة كافية لوصف حقب زمنية كاملة بكل تعقيداتها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتنوعة والمتابينة.
وبدلاً من التعامل بجدية مع كل ما يبدو عميقاً أو ذا طابع جاد، تتاح الفرصة الانتشار لكل ما هو سخيف و"سائل" علي حد تعبير الفيلسوف "زيجمونت باومن" مما يسفه من جوهر الأمور ويجعلها تبدو تافهة.
في شكلها الحالي، أصبحت السوشيال ميديا وسيلة للقضاء بشكل ممنهج على الأصالة والحياة الطبيعية، وللتعبير الحقيقي عن مشاعرنا وانتماءاتنا بطريقة غير مصطنعة.
فهي تشجع على التطبيع مع الهندسة الاجتماعية والطبقية في المجتمع بشكل انهزامي، مما يجعلها مقبولة لأنها واقع لا يمكن تغييره، وليس لأنها واقع ظالم ومشوه يجب ألا يستمر.
لذا، يتعين علينا أن نتحلى بالمقاومة ضد هذا الواقع البديل المشوه، وأن نسعى باستمرار لإظهار أصالتنا وطبيعتنا على تلك الوسائل، بحيث نؤكد وجود حقيقتنا الحقيقية وغير المصطنعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.