تعيش فرنسا منذ 27 يونيو/حُزيران الماضي على وَقْع احتجاجات شعبية غاضبة واسعة. تتصدر هذه الاحتجاجات مشاهد الحرائق والإتلاف والسلب والنهب بعد حادثة قتل الفتى نائل 17 عاماً ذي الأصل الجزائري من قِبَل الشرطة في نقطة تفتيش.
على الرغم من تفاصيل هذه الاحتجاجات وحجمها وتوقيتها وأماكنها ونتائجها، يتعين علينا أن نركز على أسباب هذه الانزلاقات الخطيرة داخل فرنسا؛ إذ تبدأ بمواقف عدائية وإقصائية ضد الأجانب، لتصل إلى حد إباحة القتل ومحاولة تبريره. فيصبح في هذا الحال، الفتى القتيل هو المتَّهَم وهو الجاني.
لذلك، الوقوف عند مَكْمن الدّاء يُمكِّننا أو يُقرّبنا من فهم دوافع هذا النوع من الاحتجاجات المتكررة في فرنسا وتصاعدها في كل مرحلة وزمن.
هل الخطاب السياسي الفرنسي هو السبب وراء الاحتجاجات؟
ليس من المبالغة أو الشطط القول بأن المسؤول الأول عن احتجاجات فرنسا، التي أعقبت القتل المتعمد لنائل على يد الشرطة، هو الخطاب السياسي الفرنسي الحاقد والإقصائي ضد الأجانب، والذي قد سلح معنوياً اليد التي قتلت نائل.
تكمن خطورة هذا الخطاب، بأنه متأصل في فرنسا فلا يوجد له نظير أو منافس في أوروبا بشكل عام. حتى في دول الشمال مثل السويد والدنمارك، حيث ربما تكون مظاهر العداء للعرب والمسلمين بارزة أكثر، لا يوجد خطاب رسمي منظم حاقد وإقصائي ضد الأجانب؛ بل هي مواقف ومظاهر تقودها أشخاص وهيئات لا تحظى بالقبول والاهتمام في الغالب.
ما الأسباب وراء السلوك العدائي لشرطة الفرنسية؟
إذن، يكمن الجذر الأساسي للمشكلة في السلوك السياسي الفرنسي العدائي تجاه الأجانب، ولا سيما العرب والمسلمين. لذلك، نحتاج إلى فهم تفسيرات هذا السلوك وما هي الأسباب وراء هذا التصرف العدائي؟
لعل التاريخ وأحداثه يمكن يُسعفنا لفهم هذا الخطاب والسلوك المعادي أو الاقتراب منه على الأقل. فبالنظر إلى تأثير الحروب الصليبية وما تركته من آثار، يمكن تفسير هذه السلوكيات العدائية التي تمتد حتى وقتنا الحاضر، حيث إنها تعود إلى مخلفات تلك الحروب وتأثيراتها التي لا تزال ماثلة حتى بعد قيام الجمهورية الفرنسية ومبادئها.
فمن خلال استعراض حملات الاستعمار الفرنسي المختلفة، نجد أن الجنرال الفرنسي هنري غوريو (1946-1867) أشار إلى ذلك عندما دخل دمشق في عام 1920 ووقف أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي ونطق قائلاً: "الآن عدنا يا صلاح الدين".
وبالنظر في السلوك العنيف للشرطة وبالرجوع إلى الخطابات السياسية في بلاد الأنوار، يظهر أن اليمين التقليدي واليمين المتطرف، بالإضافة إلى طوائف من المثقفين والسياسيين الفرنسيين المدعومين إعلامياً، ما زالوا يعيشون في الماضي.
فمن المثير للدهشة أن فرنسا، التي تتبنى العلمانية كدين ومذهب، وتتفاخر في كل مناسبة وتحارب التعبيرات الدينية والثقافية للأجانب بحجة القيم العلمانية، تصر على تأكيد هويتها المسيحية على أعلى مستوى في السلطة، خلال المناسبات الكبرى. ولا يفوتها الإشارة إلى الروابط القديمة بينها وبين ماضيها الكنسي. ومثال على ذلك ما قاله الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان(1926-2020) في خطابه لدى استقباله البابا يوحنا بولس الثاني (1920-2005) في 30 مايو/أيار 1980، حيث قال: "الشعب الفرنسي يرحب بكم في هذه البلاد التي تعتبر منذ زمن طويل الابنة الكبرى للكنيسة".
إنّ هذه الالتفاتة إلى التّاريخ ومحاولة استنطاقه تلقي بعض الضوء لفهم ما يحدث في الفضاء السّياسي الفرنسي اليوم، حيث تتنامى ظاهرة العداء للأجانب لثقافاتهم. إن العلمانيّة بمفهومها الأصليّ وقوانينها المختلفة التي كانت تستهدف إصلاح التعليم في فرنسا، ووضع حد لسيطرة الكنيسة على التّعليم الابتدائي في نهاية القرن التاسع عشر مضافًا إليها قانون 01 ديسمبر 1905 الذي قضى بتحقيق الفصل بين الكنيسة والدّولة – هذه العلمانيّة ليس فيها البتَّةَ ما يفسّر ظاهرة العَداء والإقصاء ضدّ الأجانب وسلوكات التّمييز العنصريّ التي هم ضحاياها.
إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ الإقصائي المتطرّف ضدّ الأجانب لا يوجد له نظير في عموم أوروبا، كما ذكرت سابقًا. ولكن فرنسا بجانب استرجعها للخطاب داخل حدودها، تمكنت أيضاً من تصدير هذا الخطاب السياسي المتطرف إلى مناطق نفوذها ومستعمراتها السابقة.
مثال على ذلك هو ما يحدث في أكبر مقاطعتين في كندا، وهما كيبيك وأونتاريو. في كيبيك الفرنكوفونية، تجد استنساخًا لهذا الخطاب الفرنسي الإقصائي المتطرف ضد الأجانب وجدلاً حادًا حول قضايا الهوية والإسلام والحجاب. بينما في مقاطعة أونتاريو الناطقة بالإنجليزية، فلا يوجد وجود لهذا الخطاب ولا للجدل المثار.
خطاب الكراهية في الإعلام الفرنسي
إنّ هذا الخطاب السّياسي الفرنسيّ المتطرّف ضدّ الأجانب الذي سلّح ضمنياً ومعنويًّا يد الشرطي التي قتلت نائل، يجد له أصداء واسعة بل تعاطفًا كبيرًا في الفضاء الإعلاميّ الفرنسيّ الذي تحتكره عصابة من رجال الأعمال وكبار الأغنياء وبعض السياسين والمثقفين.
ويأتي في مقدّمة هؤلاء رجل الأعمال فنسنت بولوري Vincent bolloré صاحب أكبر إمبراطورية إعلامية، في فرنسا، وصاحب شركات كبرى ذات نفوذ في اقتصاديّات دول إفريقيّة كالغابون والكونغو والكاميرون… وهو المالك للمحطّة التّلفزيونيّة Cnews ذات الصِّيت السّيئ التي تعتبر مأوًى، ومَعْوًى، لكلّ أفكار التّطرف والتّمييز العنصريّ والإقصاء والعَداء الذي يتعرّض له الأجانب في فرنسا.
هذا الخطاب العنصريّ ضدّ الأجانب الذي تَنْفُخ فيه وتتولَّى كِبْرَه وسائل الإعلام المتحيّزة في هذا الفضاء الإعلاميّ المتطرّف وظيفتُه هو التَّلهية ولَفت الأنظار والتّغطية على المشاكل الحقيقيّة لعموم الفرنسيّين وهي الحقّ في الحياة الكريمة والتّوزيع العادل للمال والثّروات كما اتّضح في مطالب انتفاضة السُّترات الصّفراء عام 2018 وكذلك في المظاهرات الشّعبية الواسعة ضدّ قانون تأخير سنّ التّقاعد التي شهدها العام الجاري.
يعد الخطاب السياسي والحزبي الحاقد والإقصائي خطر محدق بالأجانب وأحد أسباب الأزمات الداخلية في فرنسا. إذ يتم توجيه هذا الخطاب ضد فئات واسعة من الشعب ذي الأصول غير الفرنسية، الذين في الأصل هم مواطنون في البلاد بالوثائق والانتماء. ومع ذلك، يتعاملون معهم كأنهم مواطنون درجات أدنى بموجب قانون الأهالي أو الأنديجينا (indigénat) الذي وضع في الجزائر بعد احتلالها في عام 1830، والذي كان ينص على ترتيب السكان الأصليين واخضاعهم لوضع قانوني أدنى يحرمهم من حقوقهم الطبيعية. وبعد ذلك، تم تطبيقه في جميع المستعمرات التي خربتها فرنسا واستغلت ثرواتها ولا تزال تستمر في ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.