أصدر البرلمان المصري مطلع الشهر الجاري توصيات بتطوير المركز القومي للترجمة من أجل دعم تصدير الأدب المصري إلى السوق العالمية بوصفه أداة لصناعة القوة الناعمة ونشر الثقافة المصرية في ربوع العالم.
جاءت التوصيات بعد انتقادات لاذعة تعرض لها المركز في أروقة البرلمان الذي طالب بعض أعضائه العام الماضي بإعادة النظر في استمرار عمل المركز في ظل إخفاقه في ترجمة الأدب المصري وإيصاله إلى المكتبة العالمية.
ففي حين أن دولاً مثل إسبانيا وإيطاليا تترجم أكثر من 20 ألف كتاب سنوياً، لا يتجاوز عدد الكتب المترجمة في مصر حاجز ألف كتاب كل 10 سنين. ويُرجع القائمون على المركز القومي السبب وراء تراجع حركة ترجمة الأدب المصري إلى ضعف ميزانية المركز ورحيل المترجمين الأكفاء إلى دول الخليج بحثاً عن رواتب أفضل. وفي هذا الصدد، ترى النائبة ضحى العاصي أن المركز فشل في تحقيق رسالته المتمثلة في تصدير الثقافة المصرية عبر ترجمة أعمال الأدباء والمفكرين المصريين، مشيرة إلى ضرورة أن ترعى الدولة قضية تصدير الأدب المصري وتوفر الموارد اللازمة، مثل الخبرات التسويقية وغيرها.
وشملت التوصيات أيضاً إنشاء مطبعة محلية، ولكن هل يمكن أن تسهم زيادة ميزانية المركز وإنشاء مطبعة محلية في تسريع وتيرة تصدير الأدب المصري؟ بوجه عام، أثارت قضية قدرة الأدب العربي على الانتشار عالمياً اهتمام الكثير من النقاد العرب في الآونة الأخيرة، حيث شهدت فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب العام الماضي تنظيم ندوة حول حضور الأدب العربي عالمياً.
يرى ديفيد دمروش، أستاذ الأدب العالمي بجامعة هارفارد، أن الأدب يمكن أن يصل إلى العالمية إذا أضحى نافذة يرى من خلالها القارئ العالم ويستكشف ثقافات مختلفة. ينطبق هذا المعيار على ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) التي تجول بالقارئ في شوارع القاهرة وأحيائها وتتناول بالنقد مساوئ الاحتلال البريطاني لمصر خلال الحرب العالمية الثانية والأوضاع الاجتماعية والسياسية آنذاك والنظام السلطوي للملك الفاروق. وإلى جانب التعمق في إبراز تاريخ مصر خلال هذه الحقبة، تتسم الثلاثية بالطابع العالمي، ذلك أن القارئ الغربي يرى في هذه الأحياء صورة مدينة لندن في كتابات تشارلز ديكينز ومدينة سانت بطرسبورغ في كتابات دوستويفسكي ومدينة باريس في كتابات زولا.
حاول محفوظ إذن أن يطرح قضايا محلية في قالب عالمي، الأمر الذي أسهم في منحه جائزة نوبل وانتشار أدبه في جميع أنحاء العالم. وعن عالمية أدب محفوظ، ذكرت الأكاديمية السويدية التي تمنح جائزة نوبل للآداب أن أعمال محفوظ تخاطب البشرية جمعاء.
هناك نوع آخر من الأعمال الأدبية سريعة الانتشار عالمياً، ألا وهي الأعمال التي تتناول قضايا محلية مثيرة للجدل تهم القارئ الغربي. ومن الأمثلة على ذلك رواية "عمارة يعقوبيان" للكاتب المصري علاء الأسواني، ورواية "بنات الرياض" للكاتبة السعودية رجاء الصانع.
تتصدي "عمارة يعقوبيان" لقضية التنوع في المجتمع المصري عبر إلقاء الضوء على قضايا المثلية الجنسية والإرهاب واستغلال المرأة، وهو ما يفسر مسارعة دور النشر الغربية إلى شراء حقوق نشر الرواية وترجمتها إلى لغات عديدة. بعبارة أخرى، أحدثت الرواية صدى إعلامياً واسعاً في العالم العربي من خلال التطرق لموضوعات محظورة اجتماعياً، فاجتذبت اهتمام دور النشر الغربية من منطلق أن الرواية تمنح القارئ إطلالة على خبايا المجتمع المصري.
وينسحب الأمر نفسه على رواية "بنات الرياض" التي أثارت جدلاً كبيراً بسبب تسليط الضوء على قضية التمييز ضد المرأة في المجتمع السعودي، فسارعت دور النشر الغربية إلى ترجمتها وتحولت إلى رواية عالمية. لا عجب إذن أن اتهم البعض محفوظ والأسواني والصانع بالترويج للقيم الغربية في رواياتهم بحثاً عن مكانة في الأدب العالمي.
لا شك أن الأعمال الأدبية، التي تركز على واقع العالم العربي، اكتسبت زخماً كبيراً عقب اندلاع ثورات الربيع العربي بعدما أصبح القارئ الغربي أكثر اهتماماً بمتابعة التحولات السياسية في المجتمع العربي عقب موجات اللجوء غير المسبوقة إلى أوروبا وما أحدثته من انشقاقات كبيرة في المجتمعات الأوروبية وبعدما أصبحت الحروب الأهلية سمة للدول العربية في مرحلة ما بعد الربيع العربي. فشبح الاضطرابات الداخلية لم يؤرق المجتمعات العربية فحسب بل امتد صداه إلى الدول الغربية.
والمدقق في المشهد الأدبي في هذه المرحلة يدرك تزايد الاهتمام بالأدب العربي بوصفه عدسة يطل من خلالها القارئ الغربي على الوضع السياسي والاجتماعي في العالم العربي بعد أن استطاع بعض الأدباء التنبؤ باندلاع ثورات الربيع العربي، مثلما فعل الكاتب المصري أحمد خالد توفيق في روايته "يوتوبيا". وما عزز هذا الاهتمام هجرة بعض الأدباء إلى الغرب وتحولهم إلى شهود عيان يسردون في أعمالهم الأدبية هموم مجتمعاتهم العربية. ومن هؤلاء الكتّاب الروائية السورية سمر يزبك التي تُرجمت أعمالها إلى عدة لغات ولاقت استحساناً كبيراً في أوروبا. وينطبق الأمر نفسه على الكاتب السوري حميد سليمان وروايته "مستشفى الحرية" التي كتبها باللغة الفرنسية ثم تُرجمت إلى الإنجليزية والألمانية. إن شئت الدقة فقل إن مجتمع الأدباء العرب انقسم إلى فصيلين، أحدهما يكتب من الداخل العربي ويسعى لنقل أدبه إلى الخارج، والآخر يضم أدباء مهاجرين يكتب بعضهم بلغات أخرى مثل الإنجليزية والفرنسية بغية نشر أعمالهم على المستوى العالمي.
يتمثل الجانب المظلم لهذا الصراع نحو العالمية في سقوط بعض الأدباء ضحية لإملاءات دور النشر الغربية واستراتيجياتهم الربحية التي ترغم الكتّاب المهاجرين على البقاء في مربع أدب اللجوء، أي الأدب الذي يركز على تناول معاناة المهاجرين من خلال سرد تجاربهم أو تجارب الآخرين. أشارت الكاتبة السورية وداد نبي إلى هذه المعضلة واستنكرت تعامل دور النشر معها على أنها كاتبة لاجئة. كما تطرق الروائي المصري يوسف رخا إلى تحديات الكتابة بالإنجليزية بوصفها الطريق الأسرع للوصول إلى العالمية.
يرى رخا أنه لا سبيل لتبوء مكانة في الأدب الإنجليزي ما لم يكن للكاتب هوية سياسية يمكن استثمارها، كأن يكون مهاجراً أو لاجئاً أو ناشطاً سياسياً.
لا يمكن إذن اختزال مسألة تصدير الأدب في الترجمة، إذ إن ترجمة الأعمال لا تكفل بالضرورة للمؤلفين الحضور العالمي، بل يتوقف مدى انتشار الأدب على عالمية محتواه وربما الهوية السياسية للمؤلفين.
وتشير كثير من الدراسات إلى أهمية تعزيز دور الإعلام الثقافي والنقد الأدبي من أجل وضع الأدب في دائرة الضوء. أما الترجمة، فتصبح وسيلة فعالة في حال التعاقد مع مترجمين أكفاء ذائعي الصيت في بلدانهم ونشر ترجماتهم عن طريق دور نشر كبرى في مختلف الدول. يمكن القول أيضاً إن مرحلة ما بعد الربيع العربي شهدت تسارع وتيرة انتشار الأدب العالمي ويمكن استثمار هذا الزخم عبر بذل مزيد من الاستثمارات الثقافية لتحويل بعض الكتابات إلى أعمال سينمائية وتسليط الضوء عليها إعلامياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.