تمتاز الجزائر، البلد القارة، بتنوع طبيعي فريد من نوعه، فهي أكبر بلد إفريقي مساحة بـ2.8 مليون كيلومتر مربع، وداخل تلك المساحة ساحل بحري بطول 1600 كلم، ومنطقة الأطلسين التلي والصحراوي، كثيفة الغابات والخضار والجبال والواحات، تتوزع فيها مدن ألفية مثل قسنطينة وتلمسان ووادي ميزاب، ومواقع أثرية نوميدية ورومانية مثل مدغاسن والضريح الملكي بتيبازة وتيمقاد وجميلة، وصحراء رملية وحجرية شاسعة تضم بين جنباتها حظيرة الطاسيلي، أكبر محمية طبيعية في العالم، ودرتها مدينة سيفار ذات الـ15 ألف لوحة ملونة من العصر الحجري يناهز تاريخها الـ10 آلاف سنة، لكن ورغم كل هذا التراث اللامتناهي لا تزال السياسة الجزائرية في مجال السياحة "سياسة مفترسة"، ترفض تحويل تلك الموجودات والمقومات إلى قيمة مضافة، تخرجها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، إذ لا يرد إليها سوى نزر قليل من السياح الأجانب، فيما تصدر الملايين من مواطنيها للسياحة في أوروبا ودول الجوار.
جبهة التحرير تدفن المشروع السياحي في مقبرتها السياسية
ازدهرت السياحة في الجزائر خلال السبعينيات ومطلع الثمانينيات، على أنقاض منتجعات سياحية وفنادق أنجزها المهندس المعماري العالمي الشهير فرناند بويليون الذي زرع في البلاد زهاء 40 مركباً فندقياً بين أعوام 1966 /1984، تنفيذاً لخطة حكومية رمت إلى تحويل بلاد الشمس الدائمة إلى وجهة عالمية، وقد اتضح جلياً من خلال السينما عبر فيلم عطلة المفتش الطاهر، أن السياحة تمتعت بعافية كبيرة في تلك الفترات. يكتشف المشاهد في ذلك الفيلم الفكاهي، المناخ السياحي الزاخر والمشترك بين الجزائر وتونس، ليستنتج دونما عناء أنه كان قريباً ومتوحداً مع النسق السياحي التونسي، ففي تلك الأعوام تحديداً كان من النادر أن يحصل مواطن جزائري على غرفة في مركبات سيدي فرج والأندلسيات والمنتزه والطاهات وزرالدة، بسبب الإقبال الكثيف للسياح الغربيين القادمين من كل أصقاع أوروبا والعالم، غير أن حزب جبهة التحرير، الحاكم بأمره الأوحد في البلاد، قرر عبر لجنته المركزية ومكتبه السياسي تعطيل تلك الحركة، بقرار كارثي، كان يظهر الرغبة في تشجيع السياحة الشعبية المحلية بوقف السياحة الخارجية، ويضمر في الخفاء نية حقيقية هي مواجهة رياح التغيير والحرية التي يجلبها انفتاح المجتمعات المحلية على السياحة العالمية، والخوف من اكتساح العادات الدخيلة على الدين والمجتمع، مثلما أشيع وتردد، لتكون تلك السقطة الكبرى تجسيداً عملياً لذهنية وطنياتية وسيادية واشتراكية كانت ذات أثر وخيم، انتهت بدفن كلتا السياحتين الدولية والشعبية في مقبرة الإفلاس، وحرمان ثلاثة أجيال كاملة من تعلم واكتساب معايير الجودة في مجالات الخدمات والفندقة والتسيير والترويج.
مشاريع بويليون.. مركبات سياحية خارج التصنيف العالمي
ووفقاً لما تقدم انتهى الحال بالبلاد مثلما انتهى بدول شيوعية كثيرة إلى الانغلاق والانعزال عن معطيات التطور الحاصل في العالم، فتكسرت أرجل العملاق السياحي النائم، وسقطت السياحة سقوطاً حراً بدأ من عام 1984، قبل أن تجهز الأزمة السياسية والأمنية التي عصفت بالبلاد ما بين 1992/ 1999 على تركة مشروع فرناند بويليون، لتدخل كل تلك الفنادق والمنتجعات حالة ترهل وإهمال عامين وسوء تسيير، جراء توقف المد السياحي وعدم خضوع القطاع المتأثر بعدوى التسيير العمومي المتخلف للتحيين، وفقاً لمبدأ المنافسة الحرة وحرية المبادرة، فتردت الخدمات وارتفعت الأسعار بشكل خارق، واستحكمت الحلقة الكئيبة عبر سياحة عكسية ميزتها الأساسية تصدير السواح المحليين للعالم بعد توقيف استقبال السياح الأجانب، فصارت الوكالات العاملة في مجال السياحة والأسفار مجرد منصات متخصصة في الحج والعمرة، دونما حيلة لها في البحث عن جلب السياح الأجانب بعد تخريب المناخ السياحي العام في البلاد.
تدر السياحية العالمية مداخيل سنوية خرافية تدور بين 800 إلى 1000 مليار دولار، لم تجن منها البلاد الجزائرية غير حفنة زهيدة لا تفوق 300 مليون دولار في إحدى السنوات، و هو رقم غير متناسب البتة مع ما تتمتع به بلاد، صنفت قبل سنوات بين أجمل 10 بلدان في العالم، لكن ثمة فارق ما بين البلد الجميل طبيعياً والبلد الرائع سياحياً، إذ لا يتعلق الأمر بمدى ما تملكه من مؤهلات، بل بما تنتجه من أفكار في مجال الصناعة السياحية عبر العقل السياحي المدير لها بالذهنية المنفتحة والخطط الدقيقة، والرؤية الثاقبة، وبما يتبعها من تأهيل خدمات فندقية في المستوى، وإشاعة مناخ ثقافي وحضاري، هو الحاضنة الجوهرية لإعادة ترميم منظومة تم تفكيكها بالكامل طوال عقود، تماماً كما فككت مؤسسات صناعية واقتصادية، جرّاء تبني أنماط تسيير "معطبة" لكل شرائط النهضة والتطوير.
مليونا سائح جزائري يزورون تونس في عطلة الصيف
شكلت تونس، هذا البلد الليبرالي، الصغير جغرافياً، الكبير سياحياً، ملاذاً دائماً ومفضلاً للجزائريين والليبيين على حد سواء، إذ يفضل قرابة 5 ملايين مواطن من رعايا الدولتين المنتميتين لنمط التسيير الاشتراكي والأيديولوجي الوطنياتي والسيادي، قضاء العطل الصيفية وأعياد رأس السنة هناك. وواضح أن هجرة مواطنين إلى خارج الديار بحثاً عن الراحة في كنف الجودة، يعكس عجزاً عن إشباع رغبات الخدمات السياحية والحرية الاجتماعية، محلياً. فقبل سنوات عديدة بلغ عدد السياح الجزائريين المتنقلين إلى تونس 4 ملايين سائح سنوياً، حسب ما يؤكده الخبير السياحي شريف منصر، صاحب المؤسسة الرائدة تيمقاد للسفر.
ولئن تراجع الرقم إلى حدود مليوني سائح قبل جائحة كورونا، فهو يبقى رقماً كبيراً، يخفي وراءه أسباباً جوهرية تقف وراء تحرك هذه الكتلة البشرية إلى تونس وبدرجة أقل نحو مصر وتركيا واليونان وإسبانيا وإيطاليا خلال الأعوام الأخيرة، فتكلفة العطلة في تونس على سبيل المثال أقل سعراً بقرابة 3 أو 4 مرات، إذا ما قورنت بنظيرتها في الجزائر، ناهيك عن تفوق المؤسسة الفندقية التونسية في جودة الخدمة، فيما تظل تلك الخدمات باهظة التكلفة، بالجزائر، وخارج التصنيفات المعيارية العالمية، إلاّ في القليل النادر الذي لا يلائم المدخول الشهري ولا يستطيع التكفل بالأعداد الهائلة.
ومما لا شك فيه أن تبني الدولة وعلى مدار عقود طويلة لفلسفة غير منتجة، في ظل الاختباء في ظلال براميل الريع النفطي، سبب لها أضراراً مادية ومعنوية بالغة، فوّتت عليها تقديم صورة حضارية ناعمة، قبل أن يصيب المنظومة السياحية في مقاتل عدة، فخلال الستينيات والسبعينيات كان مقدراً للجزائر أن تنافس إسبانيا ذات المناخ القريب والإمكانات المتشابهة، لكنها أصيبت بالانكماش الصادم الذي يتبدى جلياً من عدم صحة تلك المقارنة السابقة مع تطورات العقود المتتالية، إذ تحتل، اليوم، إسبانيا الرتبة الثانية في العالم بمعدل 81 مليون سائح في العام، فيما احتلت الجزائر رتباً متذبذبة ما بين 79 و124 عالمياً، بقرابة مليوني سائح، بينهم أبناء المهاجر، وبدخل سنوي لا يستحق الذكر وغير مهم، أمام الفكرة الأهم: الذي لا يتقدم صوب الأمام يتراجع نحو الخلف.
قوانين الاستثمار التي قضت على الاستثمار في صناعة السياحة
ثمة حادثة شهيرة لرجال أعمال إماراتيين فوجئوا خلال إقامتهم بفندق الأوراسي المنجز عام 1974، عندما علموا أنه دشن في سنوات لم تكن فيها الإمارات سوى نواة دولة نبتت بين الخيام، ثم صارت حصالة مداخيل سياحية قاربت 21 مليار دولار عام 2017، حتى إن أولئك المستثمرين تساءلوا: "لماذا لم تواصلوا ذلك النهج الذي توقف زمنه بكم في سنوات السبعينيات؟".
طوال سنوات مديدة ظلت البلاد تتلقى عروضاً مغرية للاستثمار الدولي في مجال القطاع السياحي، لكن تلك الإغراءات باءت كلها بالفشل أمام تيار وطنياتي محافظ لا يزال منغلقاً على الفكرة السياحية لأسباب ذات هواجس متعددة غير مبررة، بينها عدم التفريط في السيادة لصالح لوبيات استثمارية غير وطنية، والإيغال المفرط في الهواجس الأمنية المسيطرة على مخيال نخب حاكمة غير مكترثة البتة بالفرص الذهبية الضائعة وبالخسائر المالية التي تتكبدها الخزينة العمومية، بفعل صرف ملايين السياح المهاجرين لمبالغ طائلة من العملة الصعبة للخارج من أجل نزهة شرعية، في وقت يقتني فيه الجزائريون تلك العملة الصعبة من السوق السوداء غير المرخصة، رغم الدعوات الصريحة لإنشاء أكشاك صرف معتمدة وبنوك متطورة.
كما عانت الوجهة الجزائرية المفترضة من كافة أشكال الظلم، من خلال غياب الترويج والتسويق الذي تتولاه الوكالات العالمية المعروفة باسم "التور أوبيراتور"، ما جعل البلاد برمتها غير معرّفة وغير معروفة في السوق الدولية للصناعة السياحية، وفي الدلائل السياحية ذات الشهرة واسعة النطاق، بالنظر لعزوف كبريات السلاسل الفندقية العالمية عن الاستثمار في البلاد لعوائق مرتبطة بالبيروقراطية وغياب حرية حركة الأموال الممركزة، وتبني الدولة لقوانين استثمار غير محفزة على الإطلاق، بل طاردة للرأسمال غير الوطني، وبخاصة المادة 49/51 التي لا تحفز تلك المؤسسات على الاستثمار المباشر أو عبر شراكات مع الرأسمال المحلي لتدني الفوائد المحصلة.
مؤثرون في ثورة الصورة وتبون ينفخ الروح في سوق التأشيرات
أمام فشل الوسائط الإعلامية لوزارات السياحة المتعاقبة، أو بسبب الافتقار للإرادة السياسية، في مرافقة صورة البلاد ونشرها عبر العالم، تكفلت وسائل التواصل الاجتماعي، منذ سنوات قليلة، بمهمة كسر الحواجز الوهمية والواقعية، هكذا لعب شبان "الفيسبوك" و"اليوتوب" و"التيك توك" و"الأنستغرام" دوراً مهماً في كشف هذا الكنز المخبوء عن العالم للعالم، ما ساهم في التعريف به عبر محتوى مؤثرين جزائريين مثل خبيب والدقس، وفنانين مثل الديدجي سنايك، ورحالة عرب مثل القطري خالد الجابر، وأوروبيين مثل بين نيكولا، وتعزَّز ذلك الفتح في مجال الترويج بفتح آخر يعد الأهم على الإطلاق، عندما اتخذ رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون قرارات جريئة فيما يخص تسهيل حصول الأجانب على تأشيرات الدخول للبلاد، في إطار مساعٍ اقتصادية ترمي لتنويع الصادرات خارج المحروقات التي من المتوقع أن تقفز إلى حدود 13 مليار دولار هذا العام. وسمحت تلك الإجراءات الثورية التي استمرت طيلة 3 أعوام بافتتاح فنادق ومنتجعات جديدة ذات معايير دولية بالشراكة مع هيئات قطرية وسعودية على سبيل المثال، كما أتاحت للآلاف من السياح الغربيين والعرب العودة التدريجية للسوق الجزائرية، عبر خطوط جوية مباشرة للصحراء وباقي مدن البلاد، والحصول على تراخيص فورية في المطارات للتجوال في 23 مقاطعة جنوبية دون الحاجة لإيداع ملفات معقدة ومربكة على مستوى السفارات والقنصليات الجزائرية المعتمدة، كأن تجعل الحصول على الفيزا واحداً من سابع المستحيلات.
من المفيد القول بأن الإجراءات الرئاسية الجديدة هي إعادة صياغة للحلم السياحي من حيث توقف بحر الثمانينيات، وتحريره من الجريمة السياسية التي ارتكبها حزب جبهة التحرير في حق البلد عبر شعار زائف: "توقيف السياحة الدولية لتشجيع السياحة الداخلية"، ففي المنطق تتطور السياحة الداخلية بتدفق السياحة الدولية على الداخل، بما أنها تفرض تجويد الفنادق والخدمات ورفعها للمستوى الذي يطلبه الزبون الغربي أو العربي، وينتج ذلك بالضرورة تزايداً للاستثمار الداخلي والخارجي مع ما ينجم عنه من تزايد الأعداد التي تحدث ما يسمى في دورة الصناعة السياحية بـ"السياحة ذات الأعداد الضخمة"، ويسفر ذلك عن انخفاض كلفة الفنادق والمطاعم وتذاكر الطيران، وتشجع تلك العوامل ميلاد التنافسية مع الأسواق الأجنبية، وتقديم عروض الحزم السياحية المغرية، ما يؤدي في الخاتمة إلى تفضيل المواطنين المحليين للسياحة الداخلية بدل البحث عنها في الأسواق الخارجية لتوفر ثنائية: الجودة/السعر.
تراهن السلطات الجزائرية على خريطة طريق ستعتمد في الظرف الراهن على تشجيع السياحة الثقافية لتوفر البلاد على سلسلة مدن رومانية عتيقة، وكذا على السياحة الصحراوية المعروفة بسياحة المغامرة التي لا تحتاج لفنادق ومركبات ضخمة، بل لمهاجع خفيفة وخيم مهيأة ملائمة للتضاريس السائدة، وما تفرضه من ترحال في مساحات شاسعة تفوق مساحة فرنسا بخمسة أضعاف بالنسبة لولاية تامنراست على سبيل المثال، فيما شرع منذ فترة في تأهيل حظيرة الفنادق الوطنية وإجراء تعديلات تخص إبرام شراكات رابح/رابح مع مؤسسات فندقية عالمية.
على الرغم من أن تحرير التأشيرات من قبضة البيروقراطية جاء بنتائج إيجابية خلال الفترة القريبة الماضية بعودة قوافل السياح العرب والأجانب للمدن والمواقع الأثرية، يطالب ممثلو القطاع السياحي بمواصلة تخفيف إجراءات الحصول على التأشيرات اقتداءً بالتجربة الأسترالية المنتهجة لمعاملة التأشيرة الإلكترونية، وافتتاح رحلات جوية زهيدة الأثمان المسماة شارتر، والأهم إلغاء المرافقة الأمنية التي تشكل عامل إزعاج للسياح الباحثين عن الشعور بالحرية. وتلك مشكلة أخرى تتطلب من السلطات الاشتغال عليها حتى لا تؤول السياسة الجديدة لمصير المثل المعروف بمسمى "هدية غاستون"، وهي أن تنزع بيدك اليمنى ما تمنحه لضيفك بيدك اليسرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.