اثنتان من شخصيات القصص القرآني لا أزال أقف حائرا أمام عظمتهما وثقل شخصيتهما في ميزان الإيمان.. فأكاد أجزم بأن الاثنين تحمّلا ما لا يتحمل بشر، وصعد بهما منحنى البلاء لأعلى نقطة بمُستقر رحمة الله ولطفه.. تلك النقطة التي تتهاوى عندها الأجساد الهشة فتنزلق سريعا إلى قاع الجزع والسخط..
إنهما سيدنا يعقوب عليه السلام وأم موسى عليه السلام..
وكلمة السر في تلك العظمة.. لا تختبئ خلف الرابطة الأبوية التي تعرف أين تقف بين مقامي البنوَّة والنبوَّة في التعامل مع ولديهما النبيين: يوسف وموسى.. وإنما سر العظمة تلك في لحظتي الفقد والفراق.. فقد يعقوب لابنه النبي، والفراق بين أم موسى وابنها النبي الرضيع.
فلَكم انبهرت بتلك اللحظة التي جسدتها عبقرية البناء القرآني في قصة النبيين الكريمين يوسف وموسى.. ورغم ما بين النبيين من بُعد زماني ومكاني فإن هناك خطوطاً متقاطعة بين قصتيهما، وأخرى متباينة:
فأما الأولى المتقاطعة/المتشابهة فهي:
* تلك اللحظة التي انطلق عندها الابتلاء يزلزل القلب لولا أن ربط الله عليه ليرسو مكانه.. مسبوقة بترتيب إلهي محكم لا راد له، أوحاه الله للوالدين- يعقوب وأم موسى- قال تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه/وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.
* الإبعاد كان الغاية والقصد مما حدث ليوسف وموسى: إبعاد يوسف عن عين أبيه التي ابيضت لما فقدت يوسف وما عاد يملأها غيره؛ والغاية: الانفراد بنظر أبيهم ولا يُشركهم فيه أحدٌ. وإبعاد موسى عن عين فرعون والغاية حمايته من جبروت فرعون وبطشه بالطفولة البريئة.
* مكان الإخفاء ووسيلته، فمع يوسف كان الحل في البئر والدلو أفضل كثيرًا من الوقوع في شرَك جريمة غير مكتملة الأركان. ومع موسى كان اليم والتابوت وسيلة انتقال إلهية من دائرة الخطر المحاصِرة لأم موسى إلى مركز الخطر نفسه في قصر فرعون، في منطق معكوس يأتي بالأمان من حيث مكمن الخوف.
هذه ثلاثة خطوط محكمات ومتشابهات في البناء القرآني للقصتين.. لكن الأكثر عجبًا نقاط التمايز بينهما.. وهي:
* وجود طرف واحد من الوالدين هنا وهناك.. فالقرآن لا يهتم بشخوص القصص إلا بقدر المساحة التي يؤثرون من خلالها في مسار القصة وحبكتها، وطبيعة الأحداث وتشابكات العلاقات بين شخوصها، فعدم ذكر أُم يوسف عليه السلام، فضلاً عن أنها تاريخيًا كانت متوفية، هو أن مبنى القصة على الغيرة بين الإخوة وكيفية علاجها، وهذا يعني أننا بحاجة إلى ميزان دقيق يتعامل بحكمة في ضبط العلاقات بين الإخوة خاصة غير الأشقاء، وهذا يعني أننا بحاجة إلى عقل يقيم العدالة بينهم، فلا يميل كل الميل إلى أحدهم دون الآخر، وإن كان من تفضيل فبحساب وعلة معتبرة، فكان من المناسب التركيز على الأب من حيث كونه مظنَّة العدل القائم على العقل والحكمة، دون الأم التي تميل إلى العاطفة أكثر.. أضف إلى ذلك أن فقدان الابن فاجعة كبيرة قد تطيش بعقل الأم.
* لكن في قصة موسى، نجد المفارقة جلية، حيث لا نجد أي إشارة إلى الأب وكان التركيز في المقابل على الأم، لأن مسار القصة كان بحاجة إلى عاطفة تسبح مع موسى في اليم لتأخذه إلى قصر فرعون، فلا دور للعقل هنا، الذي لا يسمح حُكما بوضع الطفل في التابوت وإلقائه في اليم لإبعاده عن خطر محتمل وإرساله إلى خطر مؤكد (غرقه باليم)، لكننا بحاجة إلى عاطفة القلب التي تمتثل للأمر الإلهي، وترمي بقطعة من قلبها إلى اليم، وحين تقع الفاجعة يربط الله على قلبها دون عقلها، حتى لا تطير بقيّته الباقية..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.