هذه ليست المرة الأولى، كما أنها لن تكون الأخيرة.. شاهدنا بأعيننا جميعاً بلدة حوارة وهي تحترق.. وشاهدنا قبل عدة أيام أيضاً السيناريو نفسه يتكرر في قرية ترمسعيا، ومن يتابع الشأن الفلسطيني لا بد أن يسمع وبشكل يومي عن الاعتداءات على القرى الفلسطينية ومزروعاتها وحقول زيتونها. بثت لنا الكاميرات بالصوت والصورة قطعان المستوطنين الهائجين وهم يهاجمون القرى الفلسطينية؛ يشتمون ويصرخون ويحطمون ويضرمون النار في كل ما يقع أمامهم.. شاهدنا ألسنة اللهب تلتهم السيارات والبيوت والمحلات التجارية، وأشجار الزيتون والمحاصيل الزراعية… ومن تطاله أيديهم من الفلسطينيين يردونه شهيداً أو جريحاً في أحسن الأحوال.. ليلة دامية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
جيش الاحتلال يقف على الحياد، فلا ننسى أن الأمر هنا يتعلق بأمن الفلسطينيين.. ليس هذا فقط، بل يخرج قادته بعد ذلك بتصريحات مفادها: "فقدنا السيطرة على المستوطنين بالكامل!".. ولو خرج الفلسطينيون ليدافعوا عن أنفسهم وممتلكاتهم أمام هؤلاء المستوطنين.. لتصدى لهم جيش الاحتلال بكل عنف!
يتصدرون مشاهد الاعتداءات العنيفة التي أصبحنا نراها بشكل يومي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، وخاصة التجمعات السكانية التي تحاصرها المستوطنات من جميع الجهات: حوارة، قصرى، ترمسعيا، جالود، عقربا، اسكاكا، حارس، سلفيت، بديا، سنيريا، بزاريا، كفر قدوم، جيت، مسافر يطا، بيت أُمر، الخضر، المغير، سنجل، اللِّبن، قبلان… وغيرها.
فتيةٌ وشبان.. أعمارهم صغيرة لا تتجاوز العشرين غالباً، يحملون رشاشات حديثة على أكتافهم، يتميزون بسوالف طويلة مبرومة على جوانب رؤوسهم، وخيوط تتدلى على جوانب سراويلهم من الخصر، ويغطون رؤوسهم بالكيباه (الطاقية الصغيرة الخاصة باليهود) هذا عن أشكالهم.. أما عن سماتهم الشخصية، فهم شديدو العنف، متطرفون، يؤمنون بأن من واجبهم إعادة السيطرة على أرض إسرائيل وطرد الغرباء (الفلسطينيين) عنها، الأرض التي وعدهم الرب بها" أرض السمن والعسل"، "مملكة داوود"، ولتحقيق هذا الهدف، كل شيء مباح لهم.. لا محظورات ولا ممنوعات.. إنه وعد الرب!
غالباً ما يرافق هؤلاء الفتية جنودٌ مدججون بالسلاح من جيش الاحتلال وكأنهم مقبلون على معركة حقيقية؛ ليوفروا لهم الحماية اللازمة ويضمنوا تنفيذهم للاعتداءات المخطط لها دون خسائر!
فتية التلال.. أو جماعات تدفيع الثمن كما يُسمون أيضاً!
طلبة من المعاهد الدينية اليهودية التي تنتمي إلى تيارات وحركات صهيونية عنصرية، طلبة فشلوا في مدارسهم وطُردوا منها لفشلهم التعليمي وسلوكياتهم غير السليمة، فتم إلحاقهم بالمدارس الدينية المتواجدة في مستوطنات الضفة الغربية وخاصة مستوطنات منطقة نابلس مثل مستوطنة يتسهار، في هذه المعاهد يُبرمجون على يد حاخامات على العنصرية والتعاليم الصهيونية المتطرفة الحاقدة شديدة العنف.. يُزودون بأسلحة متطورة، وإمكانيات مادية ضخمة تعجز دول عنها، ثم يُبثون في الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية ليمارسوا هذا التطرف والحقد والعنف على الفلسطينيين.
أصبح لديهم هنا بؤرة استيطانية!
يُعتبرون اليد الضاربة للشخصيات السياسية من المتدينيين أمثال بن غفير حالياً وأرئيل شارون سابقاً، والذين يأمرونهم باحتلال قمم التلال في الضفة الغربية والاستيطان فيها.. وهذا بالضبط ما يقوم به هؤلاء الفنية.
يختارون المناطق المرتفعة، الخصبة، يحددون مساحة ضخمة، يضعون حولها سياجاً، وسرعان ما تزودهم المؤسسات الاستيطانية التي تقف خلفهم بكرفان أو عريشة أو خيمة.. لا يهم.. المهم مكان يستطيعون النوم فيه، وغالباً ما يحضرون لهم أيضاً قطيعاً من الأغنام أو الأبقار يصنعون لها حظيرة، وبين عشية وضحاها تصبح هذه الأرض بؤرة استيطانية يسكنها عدة فتيان، وتعاجل مجالس المستوطنات في الضفة الغربية إلى إمدادهم بالماء والكهرباء والبنية التحتية وشق الطرق لهذه البؤر الاستيطانية.. ثم تسعى المؤسسات الاستيطانية إلى شرعنة هذه البؤر لدى محاكم دولة الاحتلال.
ثم تُحضر لها البيوت الجاهزة وتُستقدم أُسر بأكملها من المستوطنين للسكن فيها.. أصبحت هذه الأرض جزءاً من الدولة!
ولو تصدى الفلسطيني الأعزل لهؤلاء الفتية؛ لأنهم يعتدون على أرضه في طور مصادرتها: تصدى لهم جيش الاحتلال الذي يرافق هؤلاء الفتية بكل صرامة!
ينطلق هؤلاء الفتية المعتدون إلى المناطق العربية المجاورة (التي غالباً ما تكون تجمعات سكنية صغيرة كالقرى والبلدات).. يخربون، يقطعون الأشجار، يدمرون الحقول، يحطمون البيوت، والسيارات، ويخطون الشعارات العنصرية التي تهدد وتتوعد العرب، ويطلقون النار عشوائياً على البيوت وحظائر الحيوانات بقصد بث الرعب، ويقتلون أيضاً إن واتتهم الفرصة… وكل ذلك تحت حماية جيش الاحتلال.
وقد قتلوا الشاب علي حسن حرب من قرية اسكاكا حين حاول أن يمنعهم من إقامة بؤرة استيطانية على أرضه فطعنوه حتى الموت، وقتلوا الشاب عبد الكريم بديع الشيخ من قرية سنيريا حين دافع عن أرض قريته أمام البؤرة الاستيطانية التي أقامها هؤلاء، وقتلوا الشاب سامح حمد الله أقطش من حوارة حين تصدى لهم أثناء محاولتهم إحراق مزرعته ليلة الاعتداء الكبير على البلدة، وقتلوا قبل أيام الشاب عمر جبارة من ترمسعيا حين تصدى لهم وحاول منعهم من إحراق قريته!
سلسلة من الجرائم لهؤلاء المستوطنين لا تنتهي.. عادة ما تُقيد ضد مجهول، فلا يُعاقب أو يُحاسب أحد من مرتكبيها، بل تغطي عليهم نيابة الاحتلال، والجيش أيضاً، وتوظف المؤسسات الاستيطانية التي تقف خلفهم جيشاً من القانونيين ليدافعوا عن جرائمهم، ويبرؤوهم ويخرجوهم منها كما تخرج الشعرة من العجين.. وكيف لا يكون الأمر كذلك ونحن أمام إرهاب دولة بأكملها يصمت العالم عن جرائمها ويصاب بالعمى والصمم والبكم حين يتعلق الأمر بدولة الاحتلال.
ويتمادى هؤلاء المستوطنون المجرمون، ويواصلون اعتداءاتهم دون الخشية من عقاب أو حساب.. فمن أَمن العقاب أساء الأدب!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.