ارتبطنا في مرحلة الطفولة بأبطال خارقين على شاشة التلفاز، ولطالما ربطت بيننا وبينهم لغة تواصل، كانت لُغة التواصل دائماً هي صوت الترجمة لمعظم الأفلام الخاصة بالأطفال، وصوت المُعلقين في كرة القدم، إلى أن وصلنا إلى مرحلة حفظ كل ما يُقال على شاشة التلفاز، وتقليده كما هو، كأننا نتقمص أدوارهم وتُعجبنا مهنتهم.
لكن كرة القدم كما يُقال هي مجموعة من عوامل تخدم لوحة فنية متكاملة، تخيل أن يُسجل هدفٌ دون صوت المعلق للتعليق عليه مهما كان رائعاً؟ سيفتقد الهدف شيئاً مهماً لإبرازه، وهذه كانت مهنة التعليق طوال الوقت، هي واحدة من أصعب المِهن التي تحتاج إلى حضور دائم، لغوياً وذهنياً.
انتقلت الجزيرة الرياضية إلى ثوبها الجديد في العقد الماضي، حين ارتدت ثوب بي إن سبورتس، وهو ثوب لم نعهده على القناة التي احتكمت بالكامل على كل الدوريات المُتعلقة بكرة القدم، الأوروبية والإفريقية وحتى الآسيوية.
لكنها احتفظت بما يجعل الناس يركضون خلفها؛ احتفظت بالمعلقين الذين لا يُمكن أن يتم استنساخهم، ولا تقليدهم، وإلا بدا الأمر سخيفاً مبتذلاً، على رأس القائمة كان المعلق التونسي المُخضرم عصام الشوالي، الذي استطاع تحويل كرة القدم إلى عرض مسرحي بصوته.
وأدرك أن الناس لا يهيمون حُباً بلاعب كرة القدم فحسب؛ بل بالمعلق الذي يُجيد وصف ما يشعرون به في سرد بطلهم في ميدان اللعبة، ولن تجد أفضل ولا أبرع من عصام الشوالي في هذا الصدد، الرجل الذي منحه القَدر أكبر قدر ممكن من اللحظات التاريخية، سواء اختارها أم لم يخترها.
"برشلونة يستخدم سلاحه النووي.."
وكأن تونس أرادت أن تستحوذ على مساحة التعليق العربي، فلم تكتفِ بعصام الشوالي، وأخرجت رؤوف خليف، مُعلق تونسي جعل المباريات الأوروبية تحصل على هالة أكبر بترديد كلمته الشهيرة "يوووزع" والتي تشبثت بذهن كل من سمعه، ومَيَّز صوته ولو عن بُعد.
لكن إحداها خرج بعفوية شديدة من فم رؤوف خليف، ولامس قلب كل مشجع لبرشلونة يفهم لغته، ويعرف ذلك الشعور الصعب ليلتها، تلك الليلة التي نهض فيها ميسي، في إياب ربع نهائي مسابقة دوري أبطال أوروبا موسم 2012-2013 في ملعب الكامب نو، المباراة التي تأخر فيها برشلونة بهدف عن طريق باستوري في الشوط الثاني.
كان ميسي حينها قد أُصيب في مباراة الذهاب، وفي مباراة العودة جلس على مقاعد البدلاء، لكن هدف باستوري جعل ضرورة دخوله فورية، وقام ميسي من كرسيه وارتفع معه صوت رؤوف خليف بواحدة من أفضل التعليقات اللحظية، والغريب أنها لم تشمل هدفاً ولا لحظة انتصار، بل استطاع رؤوف خليف أن يجعل لحظة نهوض ميسي مميزة للأبد:
"برشلونة يستخدم سلاحه النووي" كانت تلك الجملة كفيلة بمعرفة أن ميسي قد قام من مكانه، وبدأ في عمليات الإحماء للدخول بديلاً، وكان من الواضح أن ميسي بالفعل يتأهب لإحداث شيء من تلك الأشياء التي يمتاز بها.
ولم يُكذّب ميسي خبراً لرؤوف، وفور أن دخل صنع هدف بيدرو، الهدف الذي قاد برشلونة إلى نصف نهائي المسابقة، حتى وإن كان ميسي مصاباً ليلتها، حتى وإن كان يأخذ أنفاسه بصعوبة شديدة، كصعوبة عبور برشلونة من نفس الدور.
شكراً للزميل لخضر بريش
بعد كل هذا الحضور العظيم في جهة التعليق كان لا بد أن يقف في واجهة التقديم، وإبقاء المشاهد ينتظر حضور المباراة ومعها المُعلق، مُقدم للبرامج يليق بكل هذه الأحداث الرائعة؛ لكي لا يُفسدها، وتفوق الجزيرة الرياضة، أو بي إن سبورت بثوبها الجديد، لم يشمل البث التلفزيوني والحصريات فحسب، بل أيضاً في المقدمين الذين جعلتهم في وجه المُشاهد، فإذا كانوا على قدر الحدث أراحوا المُشاهد، وجعلوه يجلس لمدة أطول قبل وبعد المباراة ليسمع ويفهم أشياءً ربما لم يفهمها في المباراة نفسها.
كان حضور لخضر بريش، المُقدم الجزائري لمباريات الليغا الإسبانية بمثابة جولة سريعة تدور في رأس كل مشاهد حول مباريات صُنفت بأفضل مباريات العقد الأخير، وفي مسابقة ضمت اثنين من أفضل لاعبي العالم: ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو.
وتناقل الناس الجملة الثابتة على لسان المُعلقين، أشهر جملة يبدأ بها معظم معلقي بي إن سبورت والجزيرة بمسماها القديم: "شكراً للزميل لخضر بريش.. أعزائي المشاهدين أهلاً وسهلاً بكم"
فكان استقبال البث منهم، وإرساله إليهم للتعليق على المباراة أو الشوط الثاني أهمية كبيرة، استطاع لخضر بريش أن يكون أهلاً لها، واستطاع أن يختم مسيرته في القناة بالطريقة التي لطالما شكره الزملاء عليها.
"ما طالت!"
وإذا ذُكرت قنوات الجزيرة أو بي إن سبورتس بمسماها الحديث، فلا بد أن نذكر طيب الذكر، الرجل الذي يعتبره الكثير من الناس أكثر معلق تحدث بعفوية طوال فترات تعليقه، إنه يوسف سيف، يوسف سيف رُبما دخل قلوب الناس قبل أن يروا صورته، كان صوته هو السبيل الوحيد لذلك.
كان صوته عادةً يسبق الحدث، وكان يُعبر عن رأيه دون خوف بكل تجرد، يكفي أنه كُلما قارن أي لاعب في العالم بميسي وضع الأخير في مرتبة الأفضل دون نقاش، وحتى قبل أن يحصل على كأس العالم، أو يُبرهن له ميسي على أفضليته.
وكان لتعليقه الشهير على الهدف الذي وضع ميسي في مكانة مختلفة هو أبسط دليل على أن يوسف سيف كُتب له أن يشهد لحظات المجد لميسي من بدايتها، والكلمة الشهيرة التي قالها بعفوية في هدف ميسي أمام خيتافي عام 2007: "ما طالت!" كانت تصف براعة الهدف بأفضل صورة ممكنة، واختتم تعليقه بجملة: "هو أرجنتيني، يأتي بأهداف إعجازية لا يأتي بها إلا أرجنتيني… دييغو مارادونا!"
لم تكن قوة مواقع التواصل الاجتماعي حينها مثل حالها الآن، وكان من الصعب استدراك ومقارنة هدف بهذه الروعة بهدف آخر يُشبهه تماماً، لكن يوسف سيف اختار مارادونا تحديداً في تعليقه؛ لكي تبدأ المقارنات بعد هذا الهدف، ويتم تشبيه هدف ميسي في خيتافي بهدف مارادونا أمام منتخب إنجلترا في كأس العالم 1986 في المكسيك.
ودخل يوسف سيف ساحة كبيرة تباينت فيها الآراء حوله، بين من يُحبون هذا الأسلوب العفوي لرجل يُشبه أجدادهم، في سرد أحداث اللقاء، وأيضاً في التعبير بأريحية عن أمور لا تتعلق بالكرة داخل كل مباراة يحتكم على مذياعها.
ميسي ماذا يفعل؟!
عُرف عنه دائماً الهدوء في إيصال وتوضيح المعلومة، هو الرجل الذي لا أتذكر ضجره ولا تذمره أبداً على شاشة التلفاز، لكن بمجرد النظر إليه تُدرك أنك أمام قامة كبيرة للغاية.
هو القطري السوري أيمن جادة، الرجل الذي لطالما كان على واجهة بي إن سبورتس في المباريات التي تحمل طابعاً تاريخياً، وهو الرجل الذي تبدو عليه كل أمارات الرُّقي والاحترام، ربما لأنه يتحدث بثقة مُفرطة بنفسه وفي معلوماته، ولديه من الخبرة ما يجعله يترأس المشهد في أقوى قناة رياضية في العالم العربي دون رهبة أو خوف.
وجمع أيمن جادة بين التعليق والتقديم، فأشهر تعليق له هو التعليق الذي كان يختص به النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، ولمحاسن الصُدف، وربما لأنه ميسي، فإن معظم معلقي بي إن سبورتس والجزيرة قد اكتسبوا لحظة تاريخية من لحظات ميسي.
وكانت أهمها بالنسبة لأيمن جادة هي تلك التي سجل فيها هدفاً في الدقيقة الأخيرة، بالودية التي جمعت المنتخب الأرجنتيني بنظيره البرازيلي في العاصمة القطرية الدوحة.
وقال أيمن جادة قبل الهدف بثوانٍ: "ميسي قدم كل شيء، لكن لم يُسجل"، ليتسلم ميسي الكُرة من منتصف الملعب، ويصل إلى منطقة جزاء المنتخب البرازيلي، ويضع الكرة في الزاوية البعيدة عن الحارس جوليو سيزار، وهذا الهدف ربما كان رداً لطيفاً من ميسي على أيمن جادة، الذي لم يسمعه بالتأكيد، لكنه أراد أن يمنحه لحظة ستظل عالقة للأبد في الأذهان!
وبهذا يُغادر جيلٌ من المخضرمين، أشخاص تركوا أثراً رائعاً في جيل الشباب، الذي أحب كرة القدم وفهمها عبرهم، وارتدى ثوب تقليدهم في التعليقات التي حدثت بفِعل الصدفة، أو أن القدر أراد لهم أن يتركوا بصمة تاريخية، لا تقل جمالاً عن أهمية الأهداف التي علقوا عليها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.