تكون أقوى لدى قراء ومتحدثي اللغة العربية.. ما هي الذاكرة العاملة؟ وكيف يمكن توقيتها عند الأطفال؟

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/21 الساعة 12:27 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/21 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش

حظيت الذاكرة باهتمام كبير من قبل رواد علم النفس المعرفي، والذي يُعرف بأنه القيام بدراسة العمليات العقلية بمختلف الأشكال؛ مثل عمليات الفهم، والتذكر والتعلم، والذاكرة تلعب دوراً مهماً في كل ما سبق، ولذلك سعى روّاد هذا الفرع العلمي الذي أطلق عليه علم النفس المعرفي منذ ظهوره، لفهم الذاكرة، وتعرف الذاكرة فيه بأنها أحد أشكال الأنشطة العقلية، وهي تقوم على حفظ كافة التجارب التي يعيشها الإنسان، كما أنها تعمل على استرجاع تلك التجارب بغية استخدامها، وحاول مجموعة من العلماء نمذجة الذاكرة، حتى يسهل عليهم التعامل معها، فأول نموذج هو لوليم جيمس، الذي قسّم الذاكرة إلى ذاكرة أولية وذاكرة ثانوية.

 وكان استناده إلى الزمن في هذا التقسيم الذي اعتمده، والذي سيتبناه بعده مجموعة من العلماء؛ حيث إنه كان يقصد بالذاكرة الأولية هي تلك الذاكرة التي تتشكل من معلومات لم تختفِ من الحاضر الذهني للفرد، والذاكرة الثانوية هي تلك الذاكرة التي كانت تحتفظ بالمحتويات التي كانت تنتمي إلى الحاضر الذهني، قبل أن تستبعد منه، غير أنه ستتوالى بعد ذلك مجموعة من التقسيمات للذاكرة، منها أن الذاكرة قصيرة وبعيدة المدى، حيث إن الأولى تعكس النشاط الكهربائي المؤقت، والثانية هي تلك التي تستدعي التغيرات المستديمة في الجهاز العصبي المركزي، وكما يرى صاحب الكتاب فإن مفهوم الذاكرة العاملة بدأ تداوله في بدايات الستينات، غير أنه في السبعينات ستقترح مجموعة من النماذج لهذه الذاكرة، وتلعبالذاكرة العاملة دوراً رئيسياً في النشاط المعرفي للإنسان، وفي معالجة المعلومات كذلك.


كما بينت مجموعة من الأبحاث أن الأداء القرائي يتأثر باضطراب نمو الذاكرة العاملة، من هنا تأتي أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، فهو يحاول أن يقارب هذه الإشكالية المهمة، وهي علاقة الذاكرة العاملة بالقراءة، ولا شك أن عمليتي القراءة والكتابة لا تزالان تلعبان دوراً مهماً في التعلم بالنسبة للأفراد؛ ولذلك فالاهتمام بالذاكرة العاملة وعلاقتها بالقراءة من شأنه أن يحل لنا الكثير من الألغاز التي تقف وراء ظاهرة صعوبة التحصيل الدراسي، فالأبحاث المنجزة بهذا الخصوص تثبت أن للذاكرة العاملة دوراً أساسياً، والكتاب الذي بين أيدينا هو مقسم إلى ثلاثة فصول رئيسية وهي كالآتي، من النماذج الأولى للذاكرة إلى نموذج الذاكرة العاملة، والفصل الثاني إواليات واضطراب القراءة، ثم الفصل الثالث وهو بعنوان الذاكرة العاملة والقراءة في اللغة العربية، ثم فصل أخير هو عبارة عن تجربة ميدانية تحت عنوان تأثير قدرة الذاكرة العاملة على النمو القرائي في اللغة العربية لدى تلاميذ التعليم الابتدائي.

 من النماذج الأولى للذاكرة إلى الذاكرة العاملة

كما سبق فالذاكرة حظيت باهتمام كبير من قبل السيكولوجيين عموماً، ورواد السيكولوجيا المعرفية على وجه الخصوص، ويُعد الأستاذ محمد المير واحداً منهم، في المغرب والعالم العربي، إلى جانب أساتذة آخرين أسهموا في إيصال ونشر هذا الشق المعرفي المهم إلى الطلاب والمهتمين، سواء من خلال الدرس الجامعي، أو بعض التآليف، والتي للأسف بالإضافة إلى قلّتها، تُضاف إلى ذلك قلة الاهتمام بها، وربما يعود ذلك إلى صعوبة قراءتها وفهمها، لإيغال الكثير من هذه المؤلفات في استعمال المصطلحات العلمية المحضة، والتي لا يجد القارئ العادي سبيلاً للوصول إليها، فلا يبقى أمامه إلا الإعراض عنها، غير أن المؤلف الذي بين أيدينا وهو لمؤلف مقتدر، حاول صاحبه إلى جانب التزامه بالمنهج العلمي، تبسيط بعض القضايا المتعلقة بالذاكرة، كما أن لغته هي لغة سلسلة ومشوقة، قد تدفع القارئ غير المختص إلى الاستفادة من الكتاب، كما أن الكتاب مدعم بجداول وخطط تساعد القارئ على تصور بعض القضايا المتناولة فيه، وهي قضايا نظرية غير أن القارئ قد يسهل عليه تصورها من خلال تلك الجداول والنماذج المقترحة.

الكتاب من تقديم الأستاذ الكبير الغالي أحرشاو، وهو من رواد السيكولوجيا في المغرب، أسهم بالإضافة إلى المحاضرات التي كان يلقيها، بمجموعة من المؤلفات في الميدان، كما أنه أشرف على الكثير من الأطروحات الأكاديمية.

 بعد التقديم تناول الكاتب في الفصل الأول مختلف التحولات الكبرى التي عرفتها دراسة الذاكرة، غير أن الكاتب وحسب غرض الكتاب ركز على نمذجة اشتغال السيرورات المعرفية المركزية؛ ولذلك فقد سعى إلى عرض مجموعة من نماذج الذاكرة، وبشكل خاص تلك التي استندت إلى المقاربة القالبية للذاكرة، والتي تفترض أن المعلومات تمر من قوالب معالجة مختلفة، أو من بنيات ذاكرة فرعية متباينة وظيفياً، قبل أن يتم تخزينها في الذاكرة بعيدة المدى.

الذاكرة العاملة

ومن ضمن النماذج التي تطرق لها الكاتب في هذا الفصل نموذج الذاكرتين لووف ونورمان، وهما قد اعتمدتا على النموذج الذي اقترحه وليم جيمس قبلهما، الذي قسم الذاكرة إلى أولية وثانوية، ثم إن الكاتب تطرق كذلك إلى النموذج الصيغي لأتنكسون وشيفرين، ويرى نموذجهما أن الذاكرة تتكون من ثلاث بنيات، وهي السجل الحسي، والسجل قصير المدى، والسجل بعيد المدى، غير أن الأهم من هذه النماذج هو نموذج بادلي وهيتش؛ حيث إنهما من أعطيا أول نموذج للذاكرة العاملة، ورغم بعض القصور في هذا النموذج والذي سيعودان لتصحيحه، إلا أن نموذجهما، كان ولا يزال يحظى بالكثير من الاهتمام من قبل العلماء؛ وذلك راجع إلى تماسك بنياته النظرية والتجريبية، وتتكون الذاكرة حسب هذا النموذج من ثلاثة مكونات رئيسية كذلك، وهي:

 حلقة صوتية، مركز تنفيذ، مفكرة بصرية مكانية، والحلقة التلفظية هي بمثابة معالج ميدان نوعي، يتعامل مع المعلومات اللغوية، سواء قدمت سمعية أو بصرية، وأما المفكرة البصرية المكانية، فتتحدد مهمتها في إنشاء وحفظ ومعالجة المعلومات البصرية والمكانية، وأما مركز التنفيذ، فمن بين وظائفه الإشراف على تدبير الأهداف، ثم بعد ذلك تطرق الكاتب إلى بعض التعديلات التي أدخلها بادلي على نموذجه الأول، كما أنه ذكر بعض النماذج الأخرى، مثل نموذج أندرسون.

إواليات واضطراب القراءة 

جميع الأبحاث المنجزة بهذا الصدد تؤكد أن اضطراب تعلم القراءة ينعكس سلباً على باقي التعلمات الأخرى؛ مما يعني أن الاهتمام باضطراب تعلم القراءة ينبغي أن يكون في صلب اهتمامات المشتغلين بالعملية التربوية، كما أن الإعاقات القرائية مسؤولة عن الفشل الدراسي، لدى فئة كبيرة من المتعلمين، ومن شأن الاهتمام بتدريب الذاكرة العاملة أن يكون له انعكاس إيجابي على الأداء القرائي، رغم أن هناك اختلافاً كبيراً حول الكيفية التي تتم بها عملية القراءة، فإن المهتمين بهذا الميدان فككوا سيرورة تعلمها إلى مجموعة من الأطوار؛ حيث افترضوا أن معالجة المعلومات تتم عبر قوالب مختلفة، صوتية، كتابية، ودلالية، ومن شأن فهم هذه السيرورات التي تتم بها القراءة أن يساعد على التحسين من اكتسابها، والتدخل كذلك في الصعوبات التي قد تعترض تعلمها العادي، وقد فصل الكاتب القول في هذا الفصل على إوالية القراءة، والتي تتمثل في التعرف على الكلمات، والفهم، هذا بالإضافة إلى بعض محددات الأداء في القراءة، كالتخزين الصوتي قصير المدى، والوعي الصوتي ونمو المفردات.

ثم بعد ذلك انتقل للحديث عن اضطراب تعلم القراءة، والذي هو من المحاور المهمة في هذا الفصل إضافة إلى ما سبق، يكون الأطفال منذ التحاقهم بالمدرسة عرضة لمشاكل مختلفة تهم تعلم القراءة، والتي قد تتفاوت حدتها وانعكاساتها على المسار الدراسي للطفل، ويتجلى ذلك في تباطؤ التحكم في المهارات القرائية، والصعوبات القرائية إذا كانت في غياب مشاكل عقلية أخرى، أو إدراكية أو عصبية بل وحتى اجتماعية، من شأن ذلك أن يحيل إلى عسر القراءة أو الإعاقة القرائية النوعية، ويهدد عُسر القراءة حسب المعطيات المحينة في الكتاب المستقبل الدراسي لما بين 4 إلى %5 أو أكثر من الأطفال.

وهذا ما يؤكد ما سلف من أن المشاكل القرائية هي السبب الرئيس في معظم حالات الفشل الدراسي، غير أن النقاش لا يزال قائماً بين علماء النفس بشأن الأسباب التي تقف وراء اضطراب القراءة، ويتمظهر هذا الاضطراب في قدرة ضعيفة على الإنصات، أو التحدث أو القراءة، أو الكتابة أو التهجئة، أو الحساب، وبذلك تكون المشاكل المرتبطة بإعاقات بصرية، أو سمعية أو حركية غير مدمجة هنا، وكذلك المشاكل المرتبطة بالتأخر الذهني، وترتبط المشاكل القرائية بصعوبة التعرف على الكلمات، وهو ما يعني تأخر نمو إواليات التعرف على الكلمات، وهذا ما أكدته المعطيات العصبية النفسية.

الذاكرة العاملة والقراءة في اللغة العربية

لما كان النظام الخطي في اللغة العربية يختلف عن النظام الخطي في اللغات الأخرى، فإن ذلك ولا شك كان له تأثير على تعلم القراءة في اللغة العربية، وبغية الكشف عن ذلك عقد الكاتب هذا الفصل، على اعتبار أن المعنيين به هم ممن يتحدثون هذه اللغة، وحاول الكاتب في هذا الفصل أن يكشف عن العلاقة بين الذاكرة العاملة والقراءة في اللغة العربية، ووقف الكاتب في هذا الفصل عند خصوصية النظام الخطي العربي؛ حيث إنه يختلف عن باقي الخطوط في اللغات الأخرى، ومن شأن ذلك أن يؤثر على سرعة ودقة التعرف على الكلمات، ثم تطرق كذلك إلى البنية المورفولوجية للكلمة العربية، حيث إنها تختلف بدورها، حيث نجد أن الاشتقاق يشكل معظم الكلمات في اللغة العربية؛ ولذلك فمن تمظهرات تعلم اللغة العربية القدرة على تفكيك الكلمات إلى مورفيمات، وأما من حيث التراكيب في العربية، فلا شك أن اللغة العربية هي لغة معربة، حيث إنه يتوقف فهم الجملة على معرفة الوظائف النحوية للكلمات، ومن شأن الجهل بذلك أن يؤثر كذلك على تعلم القراءة في اللغة العربية.

يقسم العلماء تعلم اللغة إلى مكونين رئيسيين، هما:

التعرف على الكلمات، والفهم القرائي، غير أن تعلم القراءة في اللغة العربية لا يجري على هذا المنوال، فعلى عكس اللغة اللاتينية، التي يعتمد فيها القارئ فقط على السياق في التعرف على الكلمات، حيث إنه لا يشكو ضعفاء القراءة من قصور الأداء في التعرف على الكلمات استناداً إلى المسلك الصواتي، بل المشكل يكون هو التعرف على السياق، وعموماً فالبنية الخطية في اللغة العربية، إضافة إلى البنية المورفولوجية، تؤثر على تعلم مهارة القراءة الأساسية، على سبيل المثال، فتغير شكل الحروف تبعاً لموقعها في الكلمة بالإضافة إلى تشابه بعضها يؤدي لدى بعض الأطفال إلى صعوبات في تعلم القراءة، وكما سلف فإن الذاكرة العاملة تؤثر في الأنشطة الذهنية التي تجري أثناء القراءة، غير أن المعطيات قليلة بشأن الارتباط بين الذاكرة العاملة والقراءة في اللغة العربية، وذلك يرجع إلى قلة الدراسات المنجزة بهذا الصدد.

وبغية الإسهام في هذا المجال، فقد خصص الكاتب الفصل الأخير من الكتاب لدراسة أنجزت، حول مدى تأثير قدرة الذاكرة العاملة على النمو القرائي في اللغة العربية لدى تلاميذ التعليم الابتدائي بالمغرب، وحسب النتائج المتوصل إليها بخصوص الدراسة، فإن الذاكرة العاملة تتدخل في المعالجة الدلالية للغة المكتوبة أو الفهم القرائي، كما تبين أيضاً أن الأطفال ذوي سعة الذاكرة الأعلى كان أداؤهم القرائي أفضل من ضعيفي سعة الذاكرة العاملة، وبيّنت الأبحاث أيضاً أن تطور العمليات القرائية يستند إلى ذاكرة داعمة، وبناء على ذلك فسرعة وفعالية تعامل الأطفال مع المهمات القرائية تختلف تبعاً لسعة الذاكرة العاملة، كما أن نمو الذاكرة العاملة يواكب تحسن الأداء في القراءة.

وفي الأخير، ختم المؤلف الكتاب بمجموعة من التوصيات، وهي كما يلي:

إنجاز أبحاث أخرى في مظاهر ارتباط الأنشطة القرائية في اللغة العربية بقدرة الذاكرة العاملة.

تعميق البحث في قوة تنبؤ قياسات سعة الذاكرة العاملة بالأداء القرائي في اللغة العربية.

إجراء دراسات لتأثير البنية الخطية للغة العربية على سيرورات اكتساب القرائية.

تكييف برامج تدريب الذاكرة العاملة من أجل استعمالها في إعادة تأهيل الذاكرة العاملة لدى ضعيفي القراءة.

وفي الأخير، لا يسع كاتب هذه السطور إلا التنويه بالمجهود الذي بذله الأستاذ محمد المير، بغية إخراج هذا الكتاب، وهو أستاذ متمكن في مجال علم النفس المعرفي، والذاكرة على وجه الخصوص؛ حيث إنه قام بإنجاز أبحاث عدة تهم هذا المجال بالخصوص، كما ترجم بعض الكتب التي تخص الذاكرة، ولا يسعني كذلك إلا التنويه بالطريقة الرائعة التي تم بها إخراج الكتاب، حيث إن كتب علم النفس في العالم العربي تعاني من أمرين؛ إما التبسيط الممل والذي يفقد فيه الكتاب قيمته، أو التعقيد الكبير الذي يستعصي على القارئ ولوج عالمه، غير أني أرى أن الكاتب، رام طريقاً وسطاً وسهلاً في كتابه هذا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وبذلك فهو كتاب يصلح للباحثين المهتمين، كما لعموم القراء الشغوفين.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سفيان الغانمي
كاتب رأي مغربي
تحميل المزيد