دُعيت لحضور ندوة لتوقيع ومناقشة كتاب "طه حسين: ذكريات شخصية معه" في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية في وسط القاهرة، والتي كانت مزدحمة جداً على غير العادة، لتوقيع كتاب لناقد لا يعيش بمصر، وربما لا يعرفه من كان في سن الخمسين أو أصغر، وربما من هم أكبر من ذلك مثلي.
هذا الكتاب للدكتور صبري حافظ، الناقد الأدبي والمسرحي المصري، الذي هاجر إلى بريطانيا للحصول على منحة للدكتوراة في جامعة لندن، وقبل ذلك حصل على منحة قصيرة في جامعة أكسفورد، إحدى أقدم الجامعات البريطانية وأكثرها نفوذاً، وقد جاءت هذه المنحة في نهاية عام 1973.
يمكن القول إن الكتاب يوفر تجربة قراءة ممتعة وسلسة، رغم صعوبة تصنيف الكتاب، فلا هو بمذكرات ناقد أدبي، ولا هو تاريخ سياسي، ولا يوجد به طه حسين إلا هامشياً، وليس في صلب وقلب الأحداث. لكنه عمل يستحق الاطلاع عليه والاستمتاع بأسلوب الكاتب في تناول تاريخ صعب في الثقافة أو السياسة الثقافية.
يتألف الكتاب من أربعة فصول، يبدأ الفصل الأول بتكوين المؤلف وانحيازاته الثقافية والأدبية، وعلاقته بجماعة وحدة الشيوعيين المكونة داخل منظمة الشباب، التي أدت إلى اعتقال الجماعة مع تنظيم البعثيين في عام 1966. أود هنا أن أنصح بقراءة رواية الدكتور إيمان يحيى "قبل النكسة بيوم" لمزيد من التفاصيل.
يتناول الباب الثاني في الكتاب العلاقة الوظيفية والمتقطعة بين الكاتب وطه حسين. ثم يتبعه الباب الثالث الذي يتحدث عن أثر طه حسين بنفسه أو لتلامذته على الثقافة المصرية، في ظل الاضطراب السياسي الناجم عن وفاة جمال عبد الناصر وتولي خليفته أنور السادات. أما الباب الرابع فيناقش هبوط كاتب الكتاب في بريطانيا في عام 1973، وذكرياته عن النظام والثقافة الأكاديمية والاجتماعية البريطانية.
في هوامش الكتاب وملحق المراجع خلف كل باب، ربما تحمل من الديناميكا والديناميت الفكري أكثر ما يحمله المتن، أو ربما تتساوى، وأرى أنها ضرورة لازمة للقراءة جنباً إلى جنب مع المتن.
في قلب الكتاب يحاول الكاتب أن يُبرّئ ضميره ويقر ويشير في أكثر من موضع على زخم الصالونات الثقافية في القاهرة في أواخر الستينيات، وبوادر ظهور المثقف السلطوي (التابع والمدّجن)، ونواحي التضييق الناصرية الاستبدادية على الثقافة.
حيث كان الكاتب يحضر لزهرة الثقافة المصرية في ذلك الوقت، فكان حاضراً لصالون نجيب محفوظ الذي احتضن عمالقة الأدب والثقافة المصرية، والذي عانى بعد ذلك من مضايقات أمنية وحضور "المخبرين"، حتى تم إغلاق الصالون نهائياً، فعاش الصالون ثلاث سنوات فقط (1959-1962).
أما عن المهم في سيرة الكاتب فهو عمله بالثانوية العامة، ثم التحاقه بكلية الآداب وحصوله على ليسانس خدمة اجتماعية في منتصف الستينيات، فالكاتب من مواليد المنوفية، ويقول عن أسرته إنها ورثت أطياناً زراعية، فهي أسرة متوسطة، ونال تعليمه بالقاهرة، ويبدو من الإهداء أن له من الإخوة سبعة على الأقل رحل منهم ثلاثة. وأنه بفضل سياسات طه حسين وأبويهم استطاع الجميع أن يُنهوا تعليمهم، الذكور والإناث، ولا شك أن هذه المقدمة ضرورية ومهمة وترجع الفضل لأصحابه.
كيف كان المثقفون المصريون يقاومون محاولات تدجين الدولة لهم؟
يرصد الكتاب كيف كان المثقفون يقاومون التدجين السياسي الناصري، فضرب مثلاً بالأديب أنور المعداوي، الذي كان له صالون في الدقي مطل على النيل، وهو من خريجي الجامعة المصرية، في كلية الآداب سنة 1945، وكيف كانت دائرة المعداوي تقاوم "الاحتواء"، وربما هذا لفظ يليق بالقوميين البعثيين آنذاك، أمثال رفاقه: رجاء النقاش، وجلال أمين، وسليمان فياض، حيث كان يتم إغلاق المجلات والدورات الأدبية مثل: المجلة، الكاتب، الفكر المعاصر، المسرح والسينما، عالم الكتاب، والشعر وغيرها.
وبنظرة ثقافية يبنيها الكاتب يوضح أن الثقافة المصرية أثناء ابتعاثها بعد مرقد طويل، انقسم المثقفون إلى تيارين، تيار من سلالة عبد الله النديم، الذي عاش مطارَداً من السلطة وأتباعها وأشيعائها، والذي ظل وفياً لمبادئه ولقيم الثورة "العرابية "، وتيار آخر من سلالة علي مبارك كنموذج المثقف الذي ينسج (ترزية القوانين) أفكاره وقيمه لتناسب السلطة وليحيا في ركابها.
يرصد أيضاً الكاتب في خضم الباب الأول نشوء تيار انتهازي، ربما على خطى مدرسة علي مبارك، والدكتور رشاد رشدي، الذي كان يحمل له البعض حقيبته تذللاً وتقرباً، ومنهم: سمير سرحان، محمد عناني، وعبد العزيز حمودة، وفاروق عبد الوهاب.
وبالغوص في الكتاب أكثر نستطيع أيضاً التقاط ما قامت به سهير القلماوي في مضايقة للكبير يحيى حقي، حتى دفعته للاستقالة من رئاسة "المجلة"، وقد استمر دور الثنائي رشاد رشدي وسهير القلماوي في تسليم الوسط الثقافي للسلطة، حتى إنهما أصبحا ضليعين في كتابة رسالة الماجستير الخاصة بجيهان السادات- سيدة مصر الأولى- المذاعة تلفزيونياً، وإن كان الكاتب لم يسجل الشطر الأخير من أعمال الثنائي لهجرته إلى الخارج.
ثم ينتهي الفصل الأول بعمل الكاتب موظفاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وهو الجسم السابق على المجلس الأعلى للثقافة، خلال الستينيات وكان يرأس المجلس حينها قامات كبرى مثل طه حسين، وفي مجلس الأمناء عباس العقاد، ويحيى حقي، ومحمود تيمور، ومحمد عوض محمد، وزكي نجيب محمود، وعبد الرحمن الشرقاوي، وحسين فوزي، وسليمان حزين، وعائشة عبد الرحمن، وإبراهيم بيومي مدكور وأترابهم. وأتساءل: مَن هم يا ترى الذين يتحكمون في المجلس الأعلى للثقافة اليوم؟
ولا يخلو الباب الثاني من لمز عن فاروق حسني وجابر عصفور، وعلاقتهما السافرة بالسلطة، كما يشرح لقاءات الكاتب الوظيفية بطه حسين في فيلته "رامتان" بحي الهرم، وقت أن كان متسعاً للحدائق والغيطان المديدة الخضراء، وقبل ردم الترعة التي صارت شارع فيصل، لتدشين أشد صور القبح وقتل الجمال فيما بين شارعي الهرم وفيصل.
ويسجل الكاتب أن طه حسين (1889-1973) كان حاضر الذهن جداً وهو في العقد التاسع من عمره، ويُملي بنفسه محاضر اجتماعات المجلس الأعلى، ويحظر كتابتها بغير ما يرضى ويستسيغ داخل المجلس، في ضيافة سوزان طه حسين، حيث قد ظهر إسلاميان في المجلس وعدة "دولجية" (لم يستخدم الكاتب المصطلح لكنه أشار إلى وجود سهير القلماوي).
كانت نصيحة الدكتور طه حسين بعد أن تعرف على كتابات الكاتب والموظف آنذاك هي ضرورة إتقان إحدى اللغات الأوروبية والسفر لأوروبا، لكن السفر كان مستحيلاً بسبب صعوبة استخراج تأشيرة خروج لمعتقل ماركسي سابق، وبسبب التضييق المالي، لكنّ اثنين كان لهما الفضل في تذليل ذلك المستحيل ليصير ممكناً، منهما أحد تلامذة طه حسين التنويرين، وهو محمد مصطفى بدوي، الدارس بجامعة أكسفورد، والآخر هو الكاتب والروائي إدوارد الخراط.
كيف تمت عملية السيطرة على المشهد القافي من قِبل الدولة؟
يصف الكاتب وسط المتن، أن محمد حسنين هيكل هو "مهندس تمكين السادات"، وهو ما أتفق معه جداً، كما يصف بتفاصيل خطة الملك فيصل في اختراق الوسط الثقافي المصري، بالتعاون مع السادات وأشياعه (شيخ الأزهر، ومصطفى محمود، واللواء محمد عثمان إسماعيل).
ويأتي الفصل الثالث بشرح الكاتب على استحياء تأثر المشهد الثقافي بأفكار وكتابات طه حسين، ورؤيته في النقد (في الأدب الجاهلي)، وكيف استطاع القضاء المستقل النبيل أن يقضي بألّا وجود لقرائن على حجية الدعوى، رغم تكاثر السياسيين (منهم سعد زغلول) وعناصر سياسية وأكاديمية، ومطالبتهم بضرورة إيقاع الأذى بطه حسين، ويذكر موقف الجامعة المصرية ومحاولتها للحفاظ على استقلالها عن السلطة السياسية، وكيف أسقط نظام العسكر قانون استقلال الجامعات في أول عهدهم (قانون استقلال الجامعات 96 لعام 1935)، وهو ما نعاني منه باستفحال التدخلات السياسية والأمنية في الجامعات، حتى تدهور البحث العلمي والتفكير الحر حالياً إلى أدنى المستويات.
وفي الباب الرابع، يتعرض الكاتب لتقاليد جامعة أكسفورد، والتقاليد العريقة القديمة العائدة لقرون مضت، وكيف تكونت الجامعات الأوروبية كجامعات لاهوتية، وتحولها الداخلي إلى جامعات علمانية، وإن كانت تحتفظ ببعض الطقوس المسيحية إلى حد ما.
وأخيراً، يحكي الكاتب كم أحبَّ لندن حتى وقع في غرامها، ويشرح كيف تكون لندن كالقاهرة عصية على محبة الغريب، ويستعرض باستفاضة ثقافة المتاحف العظيمة التي تقارب 170 متحفاً بلندن وحدها، وترسيخ حب العلوم والمعرفة لدى الشعب البريطاني، ويشرح أيضاً، وهذا أهم، كيف كانت البعثات العلمية والأفق الثقافي المصري يرى أوروبا كميدان للاستطلاع والاطّلاع، وكيف تدهورت قيمة الثقافة المصرية بإعراضها عن الاتصال بالحضارة العالمية، ونزيف العقول المصرية المستمر بالهجرة للغرب أو لدول الخليج العربية.
يوفر الكتاب تجربة قراءة ممتعة وسلسة، بلغة سهلة، رغم أنه يتناول تاريخاً وحقبة صعبة، تاريخ المجال الثقافي أو السياسة الثقافية في مصر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.