في نهاية شهر مايو نشرت العديد من الصحف المصرية الموثوقة خبراً عن صدور حكم قضائي من محكمة النقض بشأن أحقية شركات التطوير العقاري بزيادة سعر العقارات ومد مهلة التنفيذ والاستلام في العقود المتفق عليها مع العملاء، وذلك بسبب الارتفاع العنيف في تكاليف البناء والتشطيبات على إثر تحرير سعر العملة، وهو الأمر الذي أجبرها على التوقف عن تسليم الوحدات للعملاء.
أثار الحكم المنشور ذعراً واستياءً واسعاً وخوفاً من أن تقوم بقية شركات العقارات بخطوة مماثلة، ويصبح الحكم عرفاً مُتبعاً ومبدأً قانونياً، ما يلغي وظيفة العقود التي وقعها العملاء مع هذه الشركات، وتُلزمهم بتسليم الوحدة في توقيتها.
كما يرفع التكاليف على الملايين من العملاء الذين وضعوا في الوحدات السكنية مدخرات العمر بهدف امتلاك مسكن يأويهم، وتكبدوا عبء تسديد الأقساط على مدار سنوات في انتظار استلام الوحدة السكنية.
ومن حسن الحظ سارعت محكمة النقض في إصدار بيان، تنفي فيه ما تم نشره وتداوله على الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي من صدور حكم قضائي من محكمة النقض بشأن الحكم لصالح شركات التطوير العقاري.
أزمة قطاع التطوير العقاري
على الرغم من نفي الخبر، لا يمكن إنكار أن هناك أزمة كبيرة يعيشها سوق التطوير العقاري في مصر، حيث تأثر بشكل مباشر بتداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وما ترتب عليها من ارتفاع أسعار المعادن وحديد البناء.
إذ ساهمت التداعيات الاقتصادية، وفي مقدمتها انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، في إحداث ارتفاعات متتالية لأسعار مواد البناء المختلفة بنسبة وصلت إلى 100% لبعض السلع، خصوصاً المعتمدة على الاستيراد.
بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة التمويل مع زيادة الفائدة على الاقتراض، ما أدى لارتفاع تكلفة تنفيذ المشروعات العقارية لدى القطاع العام والخاص. وساهم في زيادة أسعار الوحدات العقارية، وأجبر المطورين على إعادة هيكلة دراسات الجدوى الخاصة بالمشاريع.
ويواجه القطاع تباطؤاً في الطلب المحلي على المنتجات العقارية، على الرغم من أن المصريين يفضلون دائماً الاستثمار في العقارات باعتباره أفضل الملاذات الآمنة لحفظ مدخراتهم، والتغلب على انخفاض قيمة العملة وارتفاع التضخم، ولكن ذلك قد تغير مع ضعف القدرة الشرائية لعموم المصريين بسبب الأوضاع الضاغطة التي يعيشونها.
ما جعل هناك حالة من عدم اليقين أصبحت سائدة، وتظهر في شكوى طبقات ضخمة من المصريين من الارتفاع المبالغ به في أسعار العقارات وتظهر أيضاً على الجانب الآخر، إذ يرى المطورون العقاريون أن القطاع يواجه أزمة كبيرة، ويطالبون الدولة مراراً وتكراراً بتقديم الدعم العاجل.
وقامت بعض الشركات مؤخراً بتسعير الوحدات العقارية بالدولار، وهو ما يفاقم الأزمة أكثر، ويضر بالاقتصاد الكلي، إذ تشجع خطوات مثل تلك على "الدولرة"، وزيادة الطلب على العملة الخضراء في السوق الرسمي والموازي على حد سواء، في وقت يُعاني فيه البنك المركزي من أزمة نقص في العملة الصعبة تدفع الجنيه إلى مزيد من الانخفاض.
وتحت ضغط الأزمة لجأت مجموعة من أكبر الشركات العقارية في القطاع الخاص إلى الاتجاه نحو الخليج، سعياً لما أطلقوا عليه "تصدير العقار"، وذلك من خلال العمل على جذب المشترين من المصريين العاملين في الخارج الذين انخفضت تحويلاتهم في الآونة الاخيرة، بالإضافة إلى تسويق العقار المصري عند المشترين الأجانب من جنسيات الدول الخليجية.
كما يبحث المطورون عن شراكات مع نظرائهم من الخليج لإقامة مشروعات جديدة خارج مصر، مع ازدياد التوقعات بحدوث ركود مزمن في السوق المصري وتباطؤ في الطلب.
والدولة بما تمتلكه من حجم أصول ضخمة واستثمارات واسعة في المدن الجديدة ليست أقل تأهباً من القطاع الخاص، إذ أقرت قوانين ولوائح جديدة تُسهل على الأجانب امتلاك عقارات في مصر.
إذ أعلنت الحكومة المصرية في مارس الماضي فتح الباب لتملك الوحدات للأجانب دون تقيد بعدد محدد، بعد أن كان القانون يُلزم الأجانب بتملك عقارين اثنين فقط ويكونان في مدينتين مختلفتين. ولجذب المزيد من المشترين للوحدات التابعة للمدن الجديدة التي تتبناها الدولة، كما قررت مصر منح جنسيتها لكل من يشتري عقاراً بما لا يقل عن 300 ألف دولار.
وفي مقال للكاتب والمترجم المتخصص في الاقتصاد السياسي مجدي عبد الهادي، يرى أن الاقتصاد المصري يتعرض لحالة تورم عقاري، تجعل انكماش أو ركود أسعار العقارات في الأعوام القادمة أمراً حتمياً. ويضيف أن ذلك نعمة متأخرة وفرصة ثمينة ينتظرها الاقتصاد منذ عقود حتى يُصحح مساره.
الدولة كمطور عقاري
منذ أواخر التسعينيات تتمتع نخبة من المطورين العقاريين بسهولة البناء على الأراضي الصحراوية الشاسعة والتربح منها، وذلك من خلال الحصول على الأراضي من الدولة بأسعار بخسة، وازدادت الوتيرة في العقد الأخير، لتتكاثر المدن الجديدة الخاصة بالطبقة فوق المتوسطة، والتي تحتوي على فيلات مترامية بين ملاعب الجولف والحدائق.
ولا يخفى على الجميع أن الدولة فرضت نفسها كمستثمر رئيسي في قطاع العقارات خلال العقد الماضي. وتستغل كونها أكبر مالك للأراضي والمسيطر الرئيسي على حق منح واستغلال الأراضي في الاستثمار في هذا القطاع المُتخم.
وتستثمر الدولة في قطاع العقارات من خلال المؤسسات المملوكة لها أو التي تمتلك أغلبية أسهمها. ومن خلال الأصول الاستثمارية للبنوك وشركات التأمين المملوكة للدولة، حيث يمتلك الكثير منها حصصاً في العديد من شركات التطوير والاستثمار العقاري.
كما تدفع استراتيجية إدارة الأصول التي تتبعها جميع القطاعات الحكومية تقريباً، إلى الاستثمار في تملك أصول ضخمة من الأراضي أو العقارات، بالإضافة إلى إنشاء شركات تطوير عقاري خاصة لتطوير وتسويق هذه الأصول.
وعلى الرغم من أن هذه الأجهزة غير مرتبطة بالنشاط العقاري ويعمل معظمها في قطاعات مثل الصناعة والزراعة والنقل، إلا أنها أصبحت تركز على استغلال أراضيها التي تقع في مناطق متميزة، واستغلال الثروات التي تمتلكها الصناديق الخاصة بها في الاستثمار في القطاع الأكثر تُخمة داخل الاقتصاد.
وتقوم هذه الشركات التابعة لأجهزة الدولة بشكل كامل أو من خلال حصص بها، بالحصول على أراضٍ مملوكة للدولة مجاناً أو بسعر رمزي بغرض تطويرها، ومن هذه الشركات شركة مصر الجديدة للإسكان والتعمير، وشركة النصر.
تضخم قطاع العقارات
ومما لا شك فيه أن تلك السياسات المنحازة للإنشاءات أدت إلى تضخم الاستثمار العقاري كنشاط اقتصادي رئيسي، حتى أصبح يساهم بنسبة 11٪ من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، ويقدر البعض أن حجم هذا القطاع وارتباطاته الكبيرة بالعديد من القطاعات الأخرى يجعله يمثل ما بين 17% إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي.
وحتى مع الاعتبار أنه يساهم بنسبة 11%، فإن ذلك يجعله يأتي في المرتبة الرابعة من بين أكبر القطاعات التي تُساهم في الناتج المحلي، حتى بات ينافس نشاطًا أساسياً كالزراعة (المرتبة الثالثة)، كما يتفوق على الصناعات التقليدية مثل التعدين.
كما يستحوذ الاستثمار العقاري على نسبة كبيرة من سوق الأوراق المالية في مصر، ويقدر حجم شركات الاستثمار العقاري بقيمة 11٪ من رأس مال البورصة المصرية، وتأتي في المرتبة الرابعة بعد الأنشطة البنكية، والموارد الأساسية مثل الاتصالات والإعلام وتكنولوجيا المعلومات.
ويظهر هذا التضخم بشكل واضح فيما يكشفه تعداد 2017 من زيادة أعداد المباني بنسبة 45% بداية من 2006، بما يتجاوز نسبة النمو السكاني خلال نفس الفترة، وبالطبع يتجاوز الاحتياجات الإسكانية، بالإضافة إلى أن القطاع شهد نمواً مبالغاً به بلغ 225% و952% على التوالي خلال فترة 2010-2017.
وفي عام 2019 بلغ عدد الوحدات العقارية غير المشغولة 12.5 مليون وحدة سكنية، وهو ما يمثل حوالي 29% من إجمالي عدد الوحدات، وتصل تقديرات قيمة الوحدات السكنية الفارغة بالمدن الجديدة وحدها لما يقدر بقيمة 2.5 تريليون جنيه. ويمثل ذلك الحجم اقتصاداً مُجمداً لا يُحقق أي نمو، ولا يساهم في أية إضافة تُذكر.
الاستثمار العقاري.. فخ الاستسهال
بسبب كون العقارات سلعة جامدة غير قابلة للتداول، وهي سلعة تنحصر تنافسيتها محلياً ولا يُمكن استيرادها من الخارج على عكس السلع الأخرى عالية القيمة والتنافسية مثل الإلكترونيات والصناعات الدقيقة الأخرى، والتي يصعب على دولة ناشئة مثل مصر المنافسة فيها. تقع الدولة في فخ الاستسهال من خلال الاستثمار في هذا القطاع الآمن والمعروفة مقوماته وتكويناته.
وعلى سبيل المثال بدلاً من الولوج في القطاعات التصديرية أو توطين صناعات مهمة مثل صناعة عربات القطار، وبدلاً من بذل كل ذلك الجهد الكبير في الدراسة والتخطيط ثم الإدارة، أسهل من ذلك يُمكن الإعلان عن بناء مدينة جديدة توفر وحدات سكنية بغرض الربح، ولن يستهلك ذلك أي دراسة جادة أو تخطيط يُذكر. ومن منطق شعبي مشهور يقول: "اللي نعرفه أحسن من اللي منعرفهوش".
لنجد في النهاية أن الاستثمار في مصر يتركز على قطاع الإنشاءات والتشييد، وتضع الدولة عشرات المليارات في إنشاء مُدن جديدة ومشاريع متعددة، حتى خرج القطاع العقاري عن دوره ووظيفته في توفير مسكن للمواطنين، وانحرف في مسار آخر، وأصبحت تقدمه كأداة استثمارية للتحوط والحماية من التضخم ووسيلة للارتقاء الطبقي.
وذلك في نفس التوقيت التي تُعاني فيه قطاعات أساسية مثل الزراعة والصناعة من التهميش. وفي نفس وقت تخارج عدد كبير من المستثمرين في صناعات أساسية كالإلكترونيات والنسيج والسيارات والمواد الغذائية. وعدم القدرة على جذب استثمارات أجنبية جديدة تحل محلها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.