في الآونة الأخيرة، اعتاد الشعب الفلسطيني على مفاجآت عسكرية تهديها له مجموعات مقاومة ملثمة. يجمع مقاوميها حب الوطن وخيار المقاومة، على الرغم من اختلاف مسمياتهم وتوجهاتهم السياسية.
فتضج شوارع الضفة الغربية بالفرح والحياة مع كل حدث وخبر جديد، فنراهم تارة يحتفلون بعمليات نوعية نفذتها "عرين الأسود"، وتارة أخرى يزفون بالأهازيج الفلسطينية الأصيلة والدة الشهيد "حسين قراقع" وهي تودّع نجلها بالورود، بعد أن دهس بمفرده 6 مستوطنين، مما أدى إلى مقتل 2 منهم.
ومما يزيد الشعب فرحاً، إدراكه أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي لم تتعود حتى الآن على هذا النوع من العمليات، التي أصبحت أكثر دقة وتنظيماً مما كانت عليه في السابق.
إذ كان ذلك واضحاً جلياً يوم أمس، في 19 يونيو/حزيران، عندما فاجأت "كتيبة جنين" قوة عسكرية إسرائيلية كانت تستعد لاعتقال ما يسمونهم "المطلوبين"، بتفجير آلية عسكرية باستخدام عبوة ناسفة شديدة الانفجار.
وتجسّدت عملية مخيم جنين بطريقة فريدة، وأثارت قلقاً عميقاً في نفوس الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. فقد أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أن العبوات المستخدمة في العملية تزن حوالي 40 كيلوغراماً، وتشبه بشدة العبوات التي تُستخدم في جنوب لبنان وقطاع غزة.
هذا الأمر يعزّز الاحتمالية المرتبطة بالاتصال المباشر والدعم بين المقاومين في مخيم جنين وقادة العمل العسكري في غزة وخارجها.
بخلاف ذلك، هذه الحقائق تثير العديد من التساؤلات، وتسلط الضوء على خطورة الوضع الأمني الحالي. فالطريقة المتبعة في تنفيذ العملية وتفجير العبوات ونوع الأسلحة المستخدمة تكشف عن تقنية متطورة وتكتيك عسكري محكم.
لذلك، تجد حكومة الاحتلال اليوم نفسها أمام حاجة ماسة لاستيعاب طبيعة هذا التهديد الجديد، الذي ينطوي على تنسيق دقيق واحتمالات خطيرة.
فوفقاً لمركز معلومات فلسطين، رُصد 1025 عملاً مقاوماً في شهر مايو 2023، تضمنت مناوشات وعمليات إطلاق نار واشتباكات مسلحة. وتم تنفيذ 47 عملية في جنين و43 عملية في نابلس، على التوالي.
تاريخ مخيم جنين أو "عش الدبابير"
لعل الأرقام التي تم ذكرها تثير فضولنا بشأن الدور التاريخي والاستراتيجي الذي يلعبه مخيم جنين في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. إذ يمتد تاريخ المخيم إلى مجزرة مخيم جنين في عام 2002، حيث نصب المقاومون كمائن مفخخة في أزقة المخيم، ما أدى إلى مقتل 13 جندياً إسرائيلياً وإصابة 15 آخرين. وصلت حصيلة المعركة إلى 50 قتيلاً إسرائيلياً و58 شهيداً فلسطينياً. وخرجت "إسرائيل" يومها من المخيم بخسارة مذهلة، ووصفت المخيم بـ"عش الدبابير".
ولا شك أن هذه المعركة تمثلت كحجر الأساس لسور عتيد يتجسد في كيان المخيم، فشلت قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى يومنا هذا في اجتيازه، مما يبرز سر الإرادة الفلسطينية، ويظهر قوة الروح المقاومة التي تنبثق منها اليوم.
ما السيناريوهات المحتمَلة والخيارات المتاحة أمام حكومة الاحتلال بعد اقتحام مخيم جنين؟
حالياً، يكمن السؤال المهم ما إذا كانت حكومة الاحتلال قادرة على نكث هذا العُش بعد التصعيد الأخير، أم أنها ستكتفي بشن حملة اعتقالات موسعة وهدم للبيوت؟
من ناحية، تجد إسرائيل نفسها في حاجة إلى رد اعتبارها أمام الشارع الإسرائيلي بعد الخسائر التي تكبدتها على مداخل المخيم. ونتيجة لذلك، قد تتخذ إسرائيل خطوات جدية نحو التصعيد وشن عملية عسكرية شاملة، كما دعا إليها وزير المالية الإسرائيلي، عندما قال: "حان الوقت لشن عملية واسعة في شمال الضفة، بمشاركة سلاح الجو والقوات البرية".
فقد أحدثت طريقة تنفيذ العملية الأخيرة لمخيم جنين، وأنواع المتفجرات وكم الأسلحة المستخدمة فيها، قلقاً كبيراً لدى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يرسم لدى الاحتلال فرضية وجود ونشاط شبكة اتصال ودعم مباشر بين مقاومي المخيم وقيادات العمل العسكري في غزة والخارج، وهو ما لن تسمح به إسرائيل بسهولة.
حيث تخشى "إسرائيل" من توسع نَفَس المقاومة الفلسطينية وامتداده إلى باقي أراضي الضفة الغربية، مما سيؤدي إلى اصطدامها المحتمل مع العديد من العمليات المشابهة في الوقت القريب القادم.
رغم ذلك، فخيار تنفيذ العمليات العسكرية ليست سهلة على الاحتلال مثل السابق، إذ تدرك حكومة نتنياهو أن أي عملية عسكرية في شمال الضفة ستتبعها حالة من الثوران الشعبي الفلسطيني، ما يزيد من احتمالية دخول فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة إلى ساحة المواجهة، وهو ما لا تتمناه إسرائيل في الوقت الحالي.
ما يتضح أمامنا اليوم، بصرف النظر عن القرار الذي سيتم اتخاذه بشأن شن عملية عسكرية في شمال الضفة الغربية من عدمه، أن إدارة الاحتلال لن تستطيع إنكار الضربة التي تلقتها أجهزتها الاستخبارية، والتي عجزت حتى اللحظة عن معرفة مصدر العبوات وطريقة وصولها لداخل المخيم.
حيث تبرهن عملية جنين فشل قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي لم تستطع التعامل بشكل احترافي مع الموقف مع كل ما تملكه من إمكانيات وعتاد، واضطرت لاستخدام القصف المروحي لأول مرة منذ عام 2002.
إن ما يميز العمل المقاوم المنظم في الضفة الغربية والذكاء العسكري الممنهج الذي يمارسه قادة المقاومة فيها بأنه يضع إسرائيل في موقف حرج ومقلق. فبوجود أسلحة بدائية تتطور وتنتشر بسرعة، تجد إسرائيل نفسها ضعيفة أمامها، وغير قادرة على صدها. وهذا يضطرها للجوء إلى استخدام أساليب هجومية أعنف وأكثر فعالية، مثل تنفيذ عمليات عسكرية وتنفيذ سياسة الاغتيال المروحي داخل حدود الضفة الغربية.
إن قوات الاحتلال أمام واقع لا تجيد قراءته، وهو ما يعكس ضعفها وهشاشتها في مواجهة التحديات الناشئة من المقاومة الفلسطينية، بينما كل ما يمكنها إدراكه هو أنها تحتاج إلى استراتيجيات جديدة وتكتيكات مبتكرة لمواجهة التهديدات المتنامية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.