عندما نستمع للزغاريد نشعر بالسعادة، فهي علامة وإشارة لوجود الفرح، والذي غالباً ما يقترن بالزواج، في أغلب الدول العربية، يطلقون على حفلات الزواج "أعراساً"، ولكن في مصر اشتُق اسم حفل الزفاف من السعادة، فأصبح يطلق عليه لقب "فرح".
لسنوات طوال ظلت الأفراح هي الوسيلة الوحيدة لإشهار وإعلان الزواج، حيث تُعلق الأنوار، وتَدُق الموسيقى، وتتجمل السيدات، ويُهندم الرجال؛ ليعيشوا ساعات من السعادة تجمع بين قلبين وأسرتين، إيذاناً بإطلاق حياة جديدة.
اليوم هل ظلت للأفراح نفس المعنى؟ أم تحوّلت لتنافس على من يكسب التريند؟
مصطفى أبو تورتة كان البداية
مع رواج السوشيال ميديا في السنوات الماضية، أصبحت أشياء كثيرة تُقاس أهميتها بمدى انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي، فنجاح الأعمال السينمائية والدرامية يبدأ من هناك، ونجاح الكتب والروايات الجديدة ينطلق من السوشيال ميديا، وأصبح هناك مؤثرون، و"بلوجرز"، و"تيكتوكرز" كلهم يقررون ما هو المهم على الساحة الآن من أحداث وأكلات وأعمال وغيرها.
ولكن لم يكن أحد يتخيل أن يصل شغف -الذي يتحول في بعض الأحيان إلى جنون- التريندات إلى علاقة مقدسة لها خصوصيتها وجديتها كالزواج؛ ليحوّلها للاعب أساسي في ملعب التريند.
وهكذا بدأ الأمر عندما سمعنا على استحياء عن "مصطفى أبو تورتة"، والذي كان المدخل لدخول الأفراح عالم التريندات، حيث ترك مصطفى عروسه في وسط الفرح هو وعائلته بعد أن قاموا بالسطو على "التورتات" الخاصة بالفرح والشبكة.
مع انتشار الحادث وانطلاق العديد من "الميمز" عنه، وانتشار لقب "مصطفى أبو تورتة" ظن الجميع أنه حادث عرضي، يعبّر عن مشكلة زواج وانتهى، ولكن كان هذا الحادث مجرد بداية.
ماسورة تريندات كُسرت
توالت أخبار الأفراح التي تتحوّل إلى تريند الواحد بعد الآخر، فمن الأب الذي يقرر أن "من يؤتمن على العرض لا يخون في المال"، للعروس التي ألقت على مسامع زوجها الوصايا العشر، ثم عروس الإسماعيلية، التي تخطى التريند قاعة الأفراح ليصل إلى منزل الزوجية في الصباحية، ومؤخراً رقص فتاة الفستان الأزرق، إلى أن نصل للتريند الأخير الأخت التي توصي عروس أخيها، والتي هزت السوشيال ميديا بين مُتفق ومعارِض.
والسؤال حقاً: أين ذهبت الأفراح العادية؟
افتقاد البساطة وأن لا نبدو كالآخرين
الآن كل عروسين يخططان لفرحهما، يفكران كيف ستخرج اللقطات عبر السوشيال ميديا، وكيف سيبهرون المدعوين بأفكار جديدة "مطرقعة" لا تشبه غيرهم.
الجيل الحالي من الشباب الذي وصل لسن الارتباط والخطوبة أصبح مُحملاً بثقافة التميز والتريند إلى أقصى درجة، حتى تسللت لكل ثغرات حياته، فلم يعد "التريند" شيئاً عرضياً للأحداث الجِسام، بل كل شاب وفتاة يحلمون بأن يصبحوا يوماً ما "تريند"، على الأقل في محيطهم من الأسرة والأصدقاء، وهكذا بدأ التفنن في جعل الأفراح ساحة نزال.
فبدأ الأمر بتخطيط العروسين لطُرق مُبتكرة لدخولهم قاعة الأفراح، ثم بدأ الأمر في الانتشار، فرأينا شركات الصوتيات التي تقوم بتجهيز أغانٍ مصنوعة خصيصاً لأحد العروسين، أو أفراد من أسرهم وأصدقائهم، ليكون حدثاً مميزاً ليس كغيره، بدأ هذا مع قيام فنانة شهيرة (نشوى مصطفى) بعمل أغانٍ خاصة لأبنائها في زواجهم، لتنتشر الفكرة كالنار في الهشيم.
ثم بعد عدة أشهر أصبحت الفكرة تقليدية، فبدأ الجميع يبحثون عن أفكار "تُعلي" على غيرهم، فالعروسة التي تدخل القاعة ببذلة رقص، والعريس الذي يلعب أكروبات مع أصدقائه، وهكذا تستمر الدائرة كلما انتشر فعل معين بعد عدة أشهر يصبح "تريند" منتهي، ليبحث الجميع عن شيء يفوقه غرابة وإثارة للصخب والدهشة، ليُصدم الجميع ويتكلمون عنه لعدة أيام، ثم يصبح قديماً ويبدأ البحث عن ما هو أجدد وأكثر صدمة للمجتمع وإثارة للجدل.
كل هذا من أجل إرواء السوشيال ميديا بكل غريب وجديد و"ترينديّ"، وهكذا افتقدنا كل مظاهر البساطة التي تميزت بها حياتنا، ومنها أفراحنا، فلقد فقدنا التقاليد الجميلة للأفراح، من أغاني الأفراح المبهجة التي صُنعت خصيصاً لهذه المناسبات، فأصبحت الأغاني الأفضل هي الأكثر صخباً ودفعاً للرقص وذات الكلمات الصادمة التي تثير الجدل، وأصبح الرقص الأكثر ابتذالاً هو الأعلى صوتاً، فتمايل الفتيات الرقيق لا يصنع "تريند"، وصارت توصية الأب لعريس ابنته في الغرف المغلقة قبل الزواج "موضة قديمة". يجب أن يتم ذلك في الميكروفون على الملأ، وتوصية الأخت لزوجة أخيها، والأم لزوج ابنتها، والتي كانت تتم همساً وبحب قبل انطلاقهما لمنزل الزوجية الجديد، تتم الآن أمام الكاميرات وفي مظاهرة من التظاهر.
والكارثة أن أغلب هذه التريندات تحوّل أبطالها إلى حديث للجميع، يشمل هذا الحديث المدح وكذلك الذم، فحياتهم الشخصية تصبح مَشاعاً لكل من يريد إبداء رأيه، ولكن يبدو أن الجميع يعتبر هذا الذم مجرد ثمن بسيط "لركوب التريند".
السعادة الزائفة
دعنا نسأل أنفسنا سؤالاً قد يبدو بسيطاً، ولكن الإجابة عليه قد تعني الكثير، عندما نخرج للتنزه، نذهب للأفراح، نزور مكاناً جديداً ونلتقط الصور المبهجة، هل نلتقطها لنشاهدها فيما بعد ونتذكر اليوم المميز؟! أم أصبحت الصور في عالمنا الحالي هي الهدف الأساسي من الحدث؟ فنحن نذهب لهذا الفرح ونحن نفكر في الصور التي سنلتقطها لنضعها عبر منصات السوشيال ميديا الخاصة بنا، كيف سنبدو أسعد، أجمل، أكثر إبهاراً، ربما أكثر ثراءً.
لقد أصبح الهدف هو الصورة والفيديو وأن نبدو سعداء لا أن نكون سعداء.
انطلقت العديد من المقالات والتحليلات النفسية والاجتماعية المتخصصة عبر العالم بأكمله لتتحدث عن هذا الأمر، مُطلقة على هذه الظاهرة "السعادة الزائفة"، وبدأ التساؤل: هل لم نعد نشعر بالسعادة حقاً، إلا بعد الحصول على موافقة وتقدير السوشيال ميديا؟
فلم يعد الهدف من النزهة السعادة "بالفسحة"، أو الهدف من إقامة فرح السعادة بالزفاف، أو حضور حفل التخرج السعادة بالنجاح، بل تبقى السعادة معلقة حتى تأخذ الموافقة من السوشيال ميديا بأن هذا حدث سعيد حقاً، استثنائي جداً، يستحق أن نضمه لقائمة الأشياء السعيدة.
وهكذا نرى "لايكات" الآخرين، و"الإيموجي" المعبر عن الانبهار، والردود التي تتفنن في مدح الحدث، وهكذا فقط نشعر أن هذه المناسبة سعيدة ويمكن أن نسعد بها.
لو نظرنا لإجابات علماء الاجتماع عن ظاهرة السعادة الزائفة، ورغبة الجميع في أن يصبح "تريند" حالياً، سنجد أن النتائج تتبلور في عدة عوامل تجيب عن السؤال المهم..
لماذا يصنع الناس أغرب الأمور ليكونوا "تريند"، وليتظاهروا بالسعادة على وسائل التواصل الاجتماعي؟
وجاءت الإجابات التي ربما نعرفها جميعاً في نفوسنا، ولكننا لا نصارح أنفسنا بها:
– الرغبة في القبول اجتماعياً؛ حيث يشعر الجميع الآن بالحاجة إلى أن يتم قبولهم من قِبَل الآخرين، وأن يشعر الآخرون بالانجذاب نحوهم، وبأنهم نجوم في يومهم هذا أو حدثهم الأهم.
– الرغبة في التحقق الفوري والإشباع، حيث يحاول الساعون للتحول إلى "تريند" تلبية رغباتهم واحتياجاتهم الفورية بأنهم مميزون من خلال إظهار السعادة والنجاح على وسائل التواصل الاجتماعي.
– القلق من الظهور كفاشلين هو عامل آخر؛ حيث لسان حال أصحاب الفرح يقول: هل سنكون كالآخرين المغمورين؟ هل ستمر مناسبتنا بلا إلقاء الضوء عليها وكأننا في عِداد الفشلة؟ ويبدأ الشعور بالقلق من أن يظهروا كأشخاص فاشلين في حالة عدم تصويرهم للسعادة والنجاح على وسائل التواصل الاجتماعي.
– بالتأكيد الجميع يتأثر بالمشاهير، وهكذا فإن شباب الجيل الجديد تحديداً يتأثرون بمنشورات المشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكبر، ويحاولون محاكاتهم والتنافس معهم، وفي ذهنهم أن الوصول إلى الشهرة لا يفصلهم عنه سوى "ضربة تريند".
– الدافع للتنافس مع الآخرين، فهم دائماً في حالة سباق وصراع، ويعانون من دافع قوي للمنافسة مع الآخرين، وإظهار أنفسهم بأفضل صورة ممكنة على وسائل التواصل الاجتماعي.
– يرجح بعض المتخصصين أن محاولات الظهور بشدة في المناسبات الخاصة على السوشيال ميديا تعكس الشعور بعدم الأمان في العلاقات الشخصية، حيث يشعر الشخص بعدم الأمان والقلق بشأن علاقاته الشخصية، لذا يحاول التظاهر بالسعادة والنجاح لتعويض ذلك.
– وأخيراً المرض المجتمعي الجماعي الذي يعاني منه أغلبنا، مهما حاولنا أن ننأى بأنفسنا عنه، وهو السعي الحثيث للحصول على تعليقات إيجابية وإعجابات، والحاجة الماسة لذلك لتعزيز الثقة بالنفس والشعور بالنجاح.
ولكن مع تطور مواقع التواصل يوماً بعد الآخر، وتتطور التكنولوجيا بشكل أكبر، وظهور واختفاء تريندات كثيرة في عالم الأفراح والزواج، لتحل محلها أخرى أكثر صخباً، إلى أين يصل بنا هذا؟ وما هي "الفرقعة" القادمة التي ستتغلب على "الفرقعات" الأخرى لتثير الدهشة والانتباه في حفل الزفاف القادم؟ وما التنازل الجديد الذي سَيُقَدم على مذبح البساطة والرُّقي ليحدث ذلك؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.