لا يترك الرئيس السيسي منتدى أو مؤتمراً إلا ويعود مجدداً للحديث عن الله، فتارة يتحدث عن تفويض إلهي فيما يصدر منه من قولٍ وفعلٍ وعملٍ في حق الشعب وتقرير مصيره وإنقاذه، من مستقبلٍ غامض ومجهول كان على أعتاب أن يقضي على هذه الأمة إلى الأبد، وتارة يعيد تذكيرنا بتأكيده على أن الله -تعالى- هو من سيقوم بمحاسبته وسؤاله، مُستبعداً أي حديثٍ عن المساءلة والمحاسبة من قبل الشعب في دوره التنفيذي كرئيس للدولة.
في مشاركته في المؤتمر الوطني للشباب المُنعقد بمحافظة الأسكندرية، اختتم النائب عبد المنعم إمام، رئيس حزب العدل، مشاركته بمطالبته بإصلاحات سياسية وتشريعية وتنفيذية لفتح المجال العام، ومطالبته باستكمال الإفراج عن المعتقلين من خلال إصدار عفو رئاسي للقوائم المقدمة من الحركة الوطنية الديمقراطية، وإغلاق ملف المعتقلين نهائياً كأحد مخرجات الحوار الوطني.
فما كان من السيسي إلا أن أعاد خطابه الأبوي المُعنف واللائم لقرارات الشعب السابقة في ثورة يناير والانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أسفرت عن تولي جماعة الإخوان والتيارات الدينية زمام السياسة.
''مقدرش متكلمش في الماضي لأن الماضي كان ممكن يخليكم.. وانا مش بخوف حد بيه، أنا بسجله، لكن إن نجاكم ربنا مرة، متستنهوش ينجيكم كل مرة''
ويستطرد السيسي مؤكداً أن لولاه لكانت هناك تدفقات كبيرة للهجرة من الشعب للدول الأخرى، مُعيداً تذكيرنا بأن الفضل لله حين قال ''ولما بقولكم كده الناس بتستغرب أوي، انت بتقول كده ليه؟! .. مش إنت إللى اتحركت؟!''، مُسبغاً القداسة على تحركه المزعوم لإنقاذ الشعب بتأكيده على أن ربنا هو من قام بعملية الإنقاذ الإلهية.
'' ده ربنا، نجاكم يا مصريين''
خطابات السيسي وحوادث قتل المصريين
في صباح الأربعاء الموافق الرابع عشر من يونيو/حزيران 2023 وقعت واحدة من أسوأ الكوارث المأساوية لحوادث الغرق قبالة السواحل اليونانية، غرق قارب للمهاجرين كان يحمل على متنه نحو سبعمائة وخمسين شخصاً من جنسيات عدة، ومن ضمنهم عشرات المصريين.
وفي مشهد مؤلم صباح الخميس الموافق الأول من يونيو/حزيران 2023 قامت أجهزة أمنية في شرق ليبيا تُرحّل اَلاف المهاجرين المصريين عبر المنفذ الحدودي بين البلدين سيراً على الأقدام في طوابير من مدن شرق ليبيا عودةً إلى مصر.
لم يكن الأمر صدفة أن يتزامن حديث السيسي في المؤتمر الوطني للشباب مع حادث غرق مركب المهاجرين، الذي أدمى قلوب الإنسانية على فقدان المئات من الأرواح البشرية الباحثة عن النجاة وحياة أخرى، فلقد شهدت فترة الرئيس السيسي منذ صعوده على رأس السلطة هجرات جماعية نتيجة للأزمات الاقتصادية الطاحنة للسياسات التي أغرقت مصر في ديون لا طائل لنا بها، والترصد الأمني والاعتقالات والاستهداف لاَلاف من الشباب.
الجمهورية الجديدة والمحاسبة الربانية
رسّخت المادة 159 من الدستور المصري المُعدّل في اَخر تحديث له في عام 2019، اَليات محاسبة رئيس الدولة في حالة إخلاله بنصوص الدستور؛ حيث نصت على أن ''يكون اتهام رئيس الجمهورية بانتهاك أحكام الدستور، أو بالخيانة العظمى، أو أية جناية أخرى، بناء على طلب موقع من أغلبية أعضاء مجلس النواب على الأقل، ولا يصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، وبعد تحقيق يجريه معه النائب العام. وإذا كان به مانع يحل محله أحد مساعديه. وبمجرد صدور هذا القرار، يوقف رئيس الجمهورية عن عمله، ويعتبر ذلك مانعاً مؤقتاً يحول دون مباشرته لاختصاصاته حتى صدور حكم في الدعوى. ويحاكم رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوية أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، ويتولى الادعاء أمامها النائب العام، وإذا قام بأحدهم مانع، حل محله من يليه في الأقدمية، وأحكام المحكمة نهائية غير قابلة للطعن. وينظم القانون إجراءات التحقيق، والمحاكمة، وإذا حكم بإدانة رئيس الجمهورية أعفى من منصبه، مع عدم الإخلال بالعقوبات الأخرى''.
الجمهورية الجديدة كما نص عليها الدستور المصري في المادة (1) تكون ''نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون''
إذن، لماذا يلجأ السيسي دوماً للحديث عن المحاسبة الربانية دون أن يذكر الاَليات الرقابية والمحاسبية في دستور الجمهورية الجديدة؟
وحين دعاه النائب عبد المنعم لإخلاء سبيل المحبوسين على ذمة قضايا رأي وإغلاق هذا الملف، لم يجد السيسي إلا أن يضرب بالجمهورية الجديدة عرض الحائط، مُبرراً اعتقاله للاَلاف ومصادرة حرياتهم داخل السجون بأنها عملية إنقاذ وطن، مُستبعداً أن يحاسبه أحد غير الله.
'' اللي هيحاسبني عليه مش انت، ده ربنا.. هيقولي ضيعت ال 100 مليون، خليتهم مشردين في كل حتة''
إذا كان الدستور أعطى لنواب الشعب الممثلين عنه الحق في اتهام رئيس الجمهورية في حالة ارتكابه إحدى الجرائم أو المخالفات، فكيف للسيسي أن ينفي حق النائب عبد المنعم إمام وغيره، إن وجدوا!، في مساءلة السيسي عن أفعاله، مبرراً ذلك بأن الله فقط هو من سيحاسبه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.