خلال القرن التاسع عشر اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية موجة من عمليات خطف الأطفال، وبسبب فشل السلطات في الوصول لحل جذري لتلك الجرائم، تفشت هذه الموجة أكثر؛ مسببة حالة من الهياج و الرعب، وفي بيئة يسيطر عليها الخوف والغموض حول تلك الجرائم، بدأ الناس يتحدثون عن "الرجل البعبع" أو كما يسمونه "the Boogeyman" وهو على حد وصف القصص عنه، رجل طويل مغطى بمعطف أسود، ويمتلك وجهاً عظمياً مرعباً.
يتنقل الرجل البعبع بين الظلال والظلمات، يطارد الأطفال ويعزلهم عن آبائهم قبل أن يتغذى على خوفهم ويقرر اختطافهم.
حاول بعض القتلة المتسلسلين والخطرين تجسيد الرجل البعبع في أنفسهم، مثل القاتل المتسلسل Albert Fish، والذي كان نشطاً خلال القرن العشرين، وكان فيش أحد أخطر المجرمين في تاريخ الولايات المتحدة، فقد كان يقتل الأطفال ويأكل لحومهم، ويدّعي أنه كان مدفوعاً بالرغبة في التغذي على خوفهم.
يمثل الرجل البعبع أو الـ"Boogeyman" نتاج تراكمات من تجارب البشر، فهو تفسير الخطر غير القابل للتفسير، والمشتبه به في الجرائم التي بلا مشتبه بهم، وهكذا يمثل تعبيراً من خيال البشر حول خوفهم من المجهول الذي يتربّص بهم في كل ركن مظلم.
عن قصة ستيفن كينغ
وكعادة كل الأساطير والحكايات الفلكلورية، يعشق الآباء استغلالها لتأديب أطفالهم، والرجل البعبع خير مثال على هذه الممارسة الإنسانية العتيقة في القدم، وكالآباء، يجد كتّاب الرعب أنفسهم مرغمين على استخدام ذات القصص لمنح تجارب مرعبة عبر قدراتهم السردية المبهرة للبالغين والأطفال على حد سواء.
وكاتب الرعب الأشهر ستيفن كينغ خير مثال على ما أقول، ففي عام 1973، أصدر كينغ مجموعته القصصية Night Shift، والتي احتوت على قصة عن الـ"Boogeyman" بنفس الاسم.
وتسرد القصة عن الفتى الشاب جون، والذي يخيم عليه شبح الرجل البعبع بعد أن أخذ أخته منه، بالطبع وبسبب الفجوة بين الصغار والبالغين، لا يدرك البالغون حقيقة ما يحاول الصغار قوله، بالتالي يرفض أبواه تصديق قصصه عن الرجل البعبع، ويرسلانه إلى منزل جديه، ولكن للأسف يتبع الرجل البعبع جون إلى منزله الجديد، وعلى الفتى مواجهة رعبه كي يمنع ذلك الوحش من اختطاف ضحية أخرى.
وفي القصة يشير كينغ إلى الفجوة بين البالغين والصغار، الفجوة التي تزداد بمرور الوقت عدم إدراك البالغين وتفكيرهم المادي والمنطقي للكيفية التي يرى بها الأطفال كل شيء حولهم، وقد امتدت إشارة كينغ لهذه الفجوة في الفيلم الجديد "The Boogeyman".
عن فيلم The Boogeyman
مؤخراً صدر فيلم The Boogeyman في السينما ليحقق نجاحاً غير متوقع، فقد حصد الفيلم 100 مليون دولار، في حين لم تتجاوز تكلفته 20 مليون دولار، ورغم بعض الانتقادات التي تم توجيهها للفيلم بسبب بطء أحداثه أو عدم أصالته، فإنه حصد تقييماً جيداً كما أنه أحد أنجح الأفلام التي اقتُبست من قصص ستيفن كينغ منذ صدور فيلم it وجزئه الثاني.
وتتبع أحداث الفيلم الفتاة ثاتشر، الفتاة المراهقة التي فقدت أمها للتو، يتم إرسال ثاتشر وأختها الصغرى سوير للعيش مع والدهما، والذي يعمل طبيباً نفسياً ويحاول تجاوز محنة وفاة زوجته، وفي أحد الأيام، يدخل مريض يائس من مرضاه إلى المنزل طلباً للمساعدة، ويغادر ليترك وراءه مخلوقاً مرعباً يسمى الرجل البعبع، حيث سيتغذى على العائلة ومعاناتها وخوفها.
وهنا نجد امتداد ما حاول كينغ مناقشته في قصته سابقاً، فالفيلم يضعنا في موقع المشاهد خلف جدران عائلة تتسع فيها الفجوة بين الصغار والبالغين، وكما نعرف جميعاً، يمتلك الصغار قدرة أكبر على الملاحظة والخيال، بالتالي نشاهدهم في الفيلم وهم يلاحظون وجود ذلك الشيء المرعب في منزلهم قبل والدهم، على الجانب الآخر، يضرب الوالد بشكوى ابنتيه عرض الحائط، غير مدرك للطريقة التي يفكر بها الأطفال.
ويمكننا هنا أن نرى كيف أن تلك الفجوة، تجعل البالغين غير قادرين على إدراك مخاوف أطفالهم، بالتالي تجعلهم معرضين للخطر؛ حيث تتملكهم العزلة والوحدة لعدم تصديق أي بالغ لما يقولون.
يمكنني القول إن الرجل البعبع أو الـ"Boogeyman" في الفيلم، لا يمثل وحشاً خيالياً فقط، بل يمثل بشراً حقيقيين يعيشون معنا كل يوم ويشتهون مخاوف الأطفال، يحاول الفيلم، وكذلك كينغ في قصته التي تم اقتباس الفيلم منها، تمثيل الذئاب البشرية في صورة ذلك الوحش الخيالي، فذلك الشيء يريد أن تتسع الفجوة بين الطفل والبالغ، حتى يقترب من الطفل كذئب يراقب حملاً شارداً، ويلتهمه وقد أمن العقاب في النهاية.
بالطبع تتسع هذه الفجوة كذلك لفقد البالغين اتصالهم مع هوياتهم الطفولية، ونسيانهم لمخاوف الطفولة، وتصوير مخاوف الطفل كأنها مجرد مبالغات فارغة، في حين أنها قد تحمل الكثير من الحقائق المرعبة، والتي لن يدركها البالغ إلا بعد فوات الأوان.
كذلك يخبرنا كينغ في قصته وفيلمه بأن جسر التواصل يمكن بناؤه بين الأطفال والبالغين، ولكن على البالغين إعطاء أطفالهم فرصة، والسعي لصناعة هذا الجسر، والذي سيكون سبيل حماية أطفالهم من مخاطر العالم.
يذكرنا الفيلم أيضاً بأن العالم الذي نعيش به هو عالم خطير، حيث الأطفال مجرد ضحايا جانبيين للحروب، لا يهتم بهم أحد، ولا يلقي لهم أحد بالاً، وهذا ما نراه ممثلاً في الرجل البعبع الذي يستهدف الأطفال، سواء في الفيلم أو في قصة كينغ، وهذا التذكير يدفعنا نحن البالغين أن نكون أكثر حرصاً على حماية أطفالنا من أخطار هذا العالم، سواء كانت هذه الأخطار مادية أو معنوية، فهم في النهاية يمثلون المستقبل.
أفلام أخرى ناقشت الفجوة بين الصغار والبالغين
من الواضح أيضاً انتشار هذه التيمة وهذه المناقشة في معظم أعمال ستيفن كينغ، ففي فيلم The Shining وفي جزئه الثاني Doctor Sleep وفي فيلم IT وجزئه الثاني، وكذلك فيلم The Dark Tower نجد أن كينغ يعيد مناقشة هذه الفكرة في أكثر من معالجة، حيث يجعل من الأطفال أبطال أعماله الذين يواجهون شروراً لا يمكن وصفها.
ولكن ماذا عن الأفلام التي ناقشت ذات الفكرة، ولم تكن من كتابة كينغ؟
هنا سأرشح لك فيلم The Babadook 2014، الذي كتبت عنه سابقاً، ويسرد الفيلم قصة أرملة فقدت زوجها، يطاردها مخلوق مرعب من قصة أطفال، ويناقش الفيلم فكرة الفجوة بين الأم وطفلها، وكذلك كيف يتغلب الإنسان على فاجعة الفقد.
كما سأرشح لك أيضاً فيلم Sinister بجزأيه، والذي سيمنحك تجربة مفزعة حقيقية ويجعلك تدرك كيف تمهد عزلة الآباء عن الأبناء الطريق لأخطار العالم الخارجي.
في النهاية يمثل اتساع الفجوة بين الأبناء والآباء، وبين الأطفال والبالغين، إحدى الكوارث الحقيقية لهذا العصر، ورغم أن المشكلة تتم مناقشتها ومعالجتها في أنواع كثيرة لا تُعد ولا تُحصى من الوسائط، فإنها تستمر معنا، وأظن أن سبب هذه المشكلة، هو امتصاص الحياة المادية المعاصرة لروح البالغين، تاركة أطفالهم معرضين لكل الأخطار والشرور في العالم الخارجي، وحين يجد الأطفال أنفسهم وحيدين في مواجهة هذا العالم، سيلجأون للذئب في جلد الخراف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.