باتت العديد من الزيجات في المغرب تنتهي بالطلاق، قد يقرأ البعض هذه الجملة دون أن يعي ماذا يعني ذلك حقيقة، خاصة إن أدرك أن هذا الأمر في الغالب يخص الشباب، بعض هؤلاء يكونون قد أنجبوا أبناء، بينما الآخرون يكونون قد فضّلوا عدم الإنجاب حتى تستقر حياتهم، فيعاجلهم الوقت دون أن يتحقق لهم ذلك، الكثير من الناس يُرجع ذلك إلى أسباب مادية بالأساس، أو أسباب لها علاقة بشخصية الأفراد المقبلين على الزواج، أي إنهم متسرعون، ولم ينتظروا بعد حتى تنضج شخصياتهم، ويتخذون القرار المناسب باختيار الشخص المناسب، قد تكون كل هذه الأسباب لها حظ من النظر، غير أن الأكيد أنها ليست هي الوحيدة، وإلا فما بال هذا الأمر بات يستشري في جميع البلدان العربية، مع اختلافٍ بين شعوبها، سواء في الثقافة أو المكانة الاقتصادية.
غير أن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من ذلك، وهو أن موجة التخلي عن مؤسسة الزواج التقليدية، حسب ما توصف به، ليس له ارتباط بكل ما سلف، بقدر ما له ارتباط بثقافة جديدة، أو على الأقل هي بالنسبة للمجتمعات العربية كذلك، إنه جانب من طغيان ثقافة الفردانية والمصالح الشخصية على ثقافة الجماعة، الجواب بطبيعة الحال ليس بهذه البساطة على سؤال بمثل هذا التشعب، فلنبدأ القصة إذن من البداية.
المقاصد الدينية للزواج
هل المقاصد الدينية هي نفسها الأغراض الاجتماعية؟ في الغالب يكون الأمر كذلك، على الأقل إذا ما عدنا إلى الحضارات القديمة، حيث يكون الدين هو المشكّل الأساس لثقافة المجتمعات، بينما الأمر اليوم قد يختلف، حتى وإن سلمنا بمسألة وجود بعض الأقليات الدينية قديماً، أو الثقافية أو العرقية حتى، والتي كانت تعيش داخل حضارات كبيرة، إلا أن الأمر من المؤكد أنه لم يكن كما اليوم، حيث إنه لم تكن هناك فوارق كبيرة بين الثقافات، ولذلك نجد أن جل الأديان السابقة، سواء كانت تلك الأديان ذات أصل سماوي، أم كانت ديانة وضعية فقط، والتي في الغالب ما تكون أقرب إلى فلسفة في الحياة منها إلى الأديان، كلها تؤكد على محورية العلاقة الزوجية، والتأكيد على روح الجماعة.
إذا ما حاولنا استحضار مواقف الأديان، على الأقل ذات الأصل السماوي، نجدها جميعها تلح فيما يخص الزواج، على مسألة واحدة، وهي أنه لا ينبغي إفراغ الشهوة، أو الرغبة الجنسية إلا عن طريق الرابطة الشرعية بين الرجل والمرأة، وكل ممارسة خارج هذه الرابطة، هي ممارسة مخالفة للدين، بل وتوجب غضب الله، لهذا نجد أن قضية الزواج هي قضية أساسية، في جميع الأديان، وهي المسألة الوحيدة المشروعة للتكاثر، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، نجد النص التالي في سفر العبرانيين الذي جاء فيه " لِيَكُنِ ٱلزِّوَاجُ مُكَرَّماً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَٱلْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ. وَأَمَّا ٱلْعَاهِرُونَ وَٱلزُّنَاةُ فَسَيَدِينُهُمُ ٱللهُ. ٱلْعِبْرَانِيِّينَ ١٣:٤.
طبعاً النصوص كثيرة في الكتاب المقدس، التي تبين أن الزواج هو الرابطة الشرعية، وبه فقط يحق ممارسة أي علاقة بين الرجل والمرأة، قد يرى البعض أن هذا الكلام قد يكون واضحاً، وربما يتساءل آخرون عن الداعي إليه، لكن لا بد من التأكيد على أن وضوح هذا الأمر أصبح محل شك اليوم، حيث نجد الكثيرين لم يكتفِ فقط بالابتعاد عن الدين، بل يدعي أن ممارسته وإن كانت مخالفة للدين، لا يهمه ذلك، لأنه ببساطة لا ينضبط لأحكامه، بل الجيل الجديد، يحاول أن يؤسس لسلوكاته وقناعاته انطلاقاً من الأديان، أو من ممارسة الحضارات السابقة، حتى يعضض موقفه، ويكيف الأديان لتخدم مصالحه، حيث تبين أنه استراتيجية الابتعاد عن الدين لم تعد تجدي نفعاً، إذ الدين سيظل قاعدة أساسية في المجتمعات، لذلك الفرض المعاصر، بدأ يحن إلى الماضي، غير أنه يريد أن يستحضره كما يشاء.
وفي الدين الإسلامي الحنيف، هذا الأمر يبدو أكثر وضوحاً، حتى أنه قد يكون من التافه مناقشته، إذ إننا نجد في أكثر من آية الحض على الزواج، ولا داعي لاستدعاء أحكام ممارسة العلاقة الجنسية خارج رابطة الزواج، الأديان جميعها تشترك في هذا الأمر، مع الاختلاف بطبيعة الحال، حول تطبيق هذا الزواج وأحكامه، وذلك لأنها تملك نفس الأصل، ونفس التفسير للوجود، وهو قصة آدم عليه السلام، والذي ينبغي على الإنسان، أن يسلك نهجهما في حياته، ومن بعده الأنبياء عليهم السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
غير أن مقاصد الأديان ربما تختلف، في بعض الأحيان، وإن كان المقصد الكلي بينهما، هو الحفاظ على النسل، إلا أننا نجد أن الدين الإسلامي ينص على مقاصد أخرى للزواج، مثل أنه مودة ورحمة، وأن فيه سكينة للإنسان، ولو أردنا قراءة هذه النصوص في ضوء واقعنا المعاصر، فإننا ندرك أهمية هذه الإشارات، حيث نجد الكثير من الاضطرابات النفسية التي باتت تنتشر بين الإنسان اليوم، سببها الوحيد، هو عدم وجود علاقات اجتماعية متينة، وأهمها هو علاقة الزوجية، والأبناء، مهما حاول الإنسان الإعراض عن هذه الأمور، فإنه يكون معرضا أكثر لأمراض نفسية، من قبيل القلق، الضغط، الاكتئاب، وغير ذلك من الأمراض التي باتت منتشرة اليوم بكثرة.
الأغراض الاجتماعية
ربما اختلاف الأغراض الاجتماعية، بين الماضي واليوم، هو الذي جعل رابطة الزواج مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وذلك لأن مفهوم المجتمع اليوم قد تغير بشكل كلي، وظهور مجتمعات موازية للمجتمع المادي، الذي شهدته الإنسانية منذ ظهورها على هذه الكرة الأرضية، حيث بتنا نتحدث عن مجتمعات داخل العالم الافتراضي، بمختلف أشكالها وألوانها، كما أن المجتمع نفسه بدأ يأخذ مفهوماً جديداً، هذا لا يعني أن المجتمع لم يعرف تحولاً في الماضي، غير أن التغيرات اليوم هي تغيرات جذرية، مع سرعة وإيقاع حدوثها، كما أن أنواع هذه التغيرات هي مختلفة كلياً عما شهدته المجتمعات في الماضي، والذي يؤكد جل الباحثين على أنها ليست في صالح الإنسان بالمرة.
فإذا كانت أغراض المجتمع في الماضي، هي التكاثر لأجل حماية المجتمع، بإنتاج أفراد كثر، سواء داخل العائلة، أو القبيلة، أو حتى المدينة، إلا أن هذا التكاثر ربما لم تعد له أية فائدة، إذا أصبحنا نتحدث عن كثافة السكان على الأرض، ومدى تأثير ذلك، سواء على البيئة أو على الموارد الطبيعية، ولهذا هناك من ينادي ربما بالتخلص من هذه الأعداد الكثيرة الموجودة على الأرض، فنفس الأمر الذي كان في الماضي مزية وغرضاً اجتماعياً، أصبح اليوم يشكل نقمة للمجتمعات الحديثة.
لماذا لم نعد نرغب في الزواج؟
أعتقد أن أهم نقطتين أساسيتين، أضرّتا برابطة الزواج في المجتمعات المعاصرة، هو طغيان الفردانية عليه بشكل مقيت، حيث إن الإنسان لم يعد يطيق وجود كائن مثله إلى جانبه، هذا الإحساس الذي بات يغشى الكثيرين ربما، هو من أهم الأسباب وراء تفكك الزيجات في العصر الحديث، إذ نجد الكثير من الأفلام والروايات والكتب، التي تستفيض في بيان مدى فظاعة الملل الذي يغشى الأزواج بعد مضي وقت وجيز من اقترانهم، طبعاً الخوض في أسباب ذلك يحتاج إلى كتب، لكن طبيعة الحضارة اليوم التي ترفع من سقف المتع، والدعوى إلى إشباع الرغبات لأقصى حد، هي من أهم الأسباب.
النقطة الثانية: التي يرى الباحثون أن لها حظاً وافراً أيضاً، في تجاوز العلاقة التقليدية بين الرجل والمرأة هي ما سُمي بالثورة الجنسية، والتي كانت بمثابة القنبلة النووية التي دربت بؤر الأسرة في المجتمعات الغربية، حيث إنه باتت تظهر هناك بالإضافة إلى العلاقات الحرة التي أصبحت مقننة، أنواع جديدة من الزيجات، رامت عن الأغراض التقليدية لهذه العلاقات، واستعاضتها بإشباع الرغبات، فأصبح الهدف الأساس، لأي علاقة هو ما مدى تحقيقها للرغبات الجسدية، بالدرجة الأولى، طبعاً هذه الممارسة كانت معضدة بنظريات في العلوم الاجتماعية، والتي أفضت إلى قوانين تحمي ذلك، وجمعيات تدافع عن حقوق هؤلاء المقتنعين بهذه الأفكار.
طبيعة المجتمع الحديث القائمة على الاستهلاك، إذ لم تتوانَ الشركات الكبرى في دعم البحوث في هذا الجانب، وإنتاج كيمة أفلام رهيبة، والتي باتت مؤخراً تنتشر في العالم العربي، كلها تدافع عن هذا الأمر، صحيح أن نظرية فرويد كان لها الحظ الأوفر في هذا الأمر، على اعتبار أنه رأى أن الكبت يعيق الإبداع، ودعا إلى التخلص من الرغبات الجنسية، بغية التحرر من العقد النفسية، إلا أن فرويد كان معبراً فقط، أو ناطقاً باسم الحضارة الغربية المعاصرة، أو مبرزاً فقط لأحد جوانبها، كما فعل ماركس، أو سميث، أو غيرهم، حيث إننا نجد أن هذه الحضارة حاولت استبعاث ثقافة اللذة والمتعة، ولم يكن لهذه الثقافة من سبيل لأن تتحقق إلا بتدمير النموذج القديم، ومنه بطبيعة الحال الزواج.
هل نستطيع التعايش مع هذا الواقع؟
طبعاً اليوم يبدو من شبه المستحيل، العيش على النمط القديم، حيث إننا نجد أن هذا المجتمع هو الذي يفرض على الذين يعيشون داخله نمط السلوك، سواء عن طريق القوة الناعمة، وذلك بنشر ثقافات وأفكار بينهم، تحت يافطات ومسميات مختلفة، ومن لم يطوع من أفراد هذه المجتمعات، فإنه يجد نفسه محكوماً بالواقع الاقتصادي، الذي يقوم على المنافسة الشرسة على الاستهلاك، فلا يجد بداً من الانخراط في النموذج الجديد، طوعاً أو كرهاً، وإلا فسيصيبه ما حل بالديناصورات في العصور القديمة، التي لم تستطع التكيف مع واقعها، حسب ما يرى المروجون لهذا الخطاب، فأصبحت اليوم مجرد جماجم تزين المتاحف.
نسبة الطلاق التي يشهدها العالم العربي، هي جد عادية حسب الداعين إلى النموذج الجديد، بل مؤشر على نجاح النموذج وفاعليته، غير أنها مقلقة، وربما خطيرة، لمن ما زالوا يحلمون باستعادة النموذج القديم، والذي يرون فيه أنه هو الذي يحقق للإنسان راحته وتوافقه الفكري والنفسي، لا شك أن هذه النسبة ستزداد تصاعداً، خاصة مع ظهور أشكال جديدة لمفهوم الزواج، تحول من رابطة مقدسة، أو ميثاق غليظ، إلى وسيلة للمتعة، أو طريقة من طرق الربح السريع، والذي أصبح من أوهام العصر الحديث أيضاً، حيث نجد أن جل من يتزوجون سرعان ما يبدأون مشاركة الناس أدق تفاصيل حياتهم، حيث تحولت الرابطة إلى وسيلة مدرة للدخل، وبالتالي فجودتها رهينة بمدى تحقيقها للأهداف المادية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.