لا شك أن خير الأمة بعد نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، هم الخلفاء الراشدون؛ إذ شهد القرآن الكريم والسنة النبوية الخيرية المطلقة لجيل صحابة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فضلاً عن الخلفاء الأربعة، الذين صحبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ولازموه في كل أحواله، وتعلّموا منه الهدي القرآني القويم؛ ولمّا طبقوا هذا المنهج؛ فتح الله عليهم، ومكّن لهم في الأرض، بما أخذوه من أسباب القوة والتمكين التي أمرهم الله بها، مع توكلهم المطلق على الله سبحانه وتعالى.
وإِنَّ الاستخلاف في الأرض، والتَّمكين لدين الله وإِبدال الخوف أمناً وعدٌ من الله -تعالى- يتحقق للمسلمين كما تحقق للجيل الفريد متى حقَّق المسلمون شروطه، ولقد أشار القرآن الكريم بكلِّ وضوحٍ إِلى شروط التَّمكين، ولوازم الاستمرار فيه، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ*} [النور: 55، 56].
ولقد أشارت الآيات الكريمة إِلى شروط التَّمكين، وهي: الإِيمان بكلِّ معانيه، وبجميع أركانه، وممارسة العمل الصَّالح بكلِّ أنواعه، والحرص على كلِّ أنواع الخير، وصنوف البرِّ، وتحقيق العبودية الشَّاملة، ومحاربة الشِّرك بكلِّ أشكاله، وأنواعه، وخفاياه.
وأمَّا لوازم التمكين؛ فهي: إِقامة الصَّلاة، وإِيتاء الزَّكاة، وطاعة الرَّسول (صلى الله عليه وسلم)،
وقد تحقَّقت هذه الشروط واللوازم كلُّها في عهد الصديق والخلفاء الراشدين من بعده، وكان للصدِّيق الفضل -بعد الله- في تذكير الأمَّة بهذه الشروط، ولذلك رفض طلب الأعراب في وضع الزَّكاة عنهم، وأصرَّ على بعث جيش أسامة، والتزم بالشَّرع كاملاً، لم يتنازل عن صغيرةٍ، ولا كبيرةٍ . قال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مقاماً كدنا نهلك فيه؛ لولا أن منَّ علينا بأبي بكر، أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاضٍ، وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربيَّةً، ونعبد الله حتَّى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكرٍ على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إِلا بالخطَّة المخزية، أو الحرب المُجْلِية.
الأخذ بأسباب التَّمكين:
قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ*} [الأنفال: 60].
وقد لاحظت: أنَّ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ كان إِعداده شاملاً معنويّاً وماديّاً، فجيَّش الجيوش، وعقد الألوية، واختار القادة لحروب الردَّة، وراسل المرتدِّين، وحرَّض الصحابة على قتالهم، وجمع السِّلاح والخيل والإِبل، وجهَّز الغزاة، وحارب البدع، والجهل، والهوى، وحكَّم الشَّريعة، وأخذ بأصول الوحدة، والاتِّحاد، والاجتماع، وأخذ بمبدأ التفرُّغ، وساهم في إِحياء مبدأ التَّخصُّص، فخالد لقيادة الجيوش، وزيد بن ثابت لجمع القرآن، وأبو برزة الأسلمي للمراسلات الحربيَّة، وهكذا، واهتمَّ بالجانب الأمني، والإِعلام، وغير ذلك من الأسباب.
تحكيم الشَّرع:
تظهر آثار تحكيم شرع الله في عصر الصِّدِّيق في تمكين الله للصَّحابة، فقد حرصوا على إِقامة شعائر الله على أنفسهم، وأهليهم، وأخلصوا في تحاكمهم إِلى شرعه، فالله سبحانه وتعالى قوَّاهم، وشدَّ أزرهم، ونصرهم على المرتدِّين، ورزقهم الأمن، والاستقرار، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ*} [الأنعام: 82].
وتحقَّقت فيهم سنَّة الله في نصرته لمن ينصره؛ لأنَّ الله ضمن لمن استقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزَّته، وقوَّته، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ*} [الحج: 40، 41].
وما حدث قطُّ في تاريخ البشريَّة أن استقامت مجموعةٌ على هدي الله إِلا منحها القوَّة، والمنعة، والسِّيادة في نهاية المطاف. (في ظلال القرآن، 4/270).
وقد انتشرت الفضائل، وانحسرت الرَّذائل في عهد الصِّدِّيق رضي الله عنه.
المجتمع في عصر الصِّديق:
حين ندرس المجتمع المسلم في صدر الخلافة الرَّاشدة تتَّضح لنا مجموعةٌ من السِّمات، منها:
1ـ أنَّه ـ في عمومه ـ مجتمعٌ مسلمٌ بكامل معنى الإِسلام، عميقُ الإِيمان بالله، واليوم الآخر، مطبِّقٌ لتعاليم الإِسلام بجدِّيَّةٍ واضحةٍ، والتزامٍ ظاهرٍ، وبأقلِّ قدرٍ من المعاصي وقع في أيِّ مجتمعٍ في التاريخ، فالدِّين بالنسبة له هو الحياة، وليس شيئاً هامشياً يفيء إِليه بين الحين والحين، إِنَّما هو حياة النَّاس، وروحهم، ليس فقط فيما يؤدُّونه من شعائر تعبديَّة، يحرصون على أدائها على وجهها الصَّحيح، وإِنَّما من أخلاقيَّاتهم، وتصوُّراتهم، واهتماماتهم، وقيمهم، وروابطهم الاجتماعيَّة، وعلاقات الأسرة، وعلاقات الجوار، والبيع، والشِّراء والضَّرب في مناكب الأرض، والسَّعي وراء الأرزاق، وأمانة التَّعامل، وكفالة القادرين لغير القادرين، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والرَّقابة على أعمال الحكَّام، والولاة، ولا يعني هذا بطبيعة الحال أنَّ كلَّ أفراد المجتمع هم على هذا الوصف، فهذا لا يتحقَّق في الحياة الدُّنيا، ولا في أي مجتمعٍ من البشر. وقد كان في مجتمع الرسول(صلى الله عليه وسلم) ـ كما ورد في كتاب الله ـ منافقون، يتظاهرون بالإِسلام، وهم في دخيلة أنفسهم من الأعداء، وكان فيه ضعافُ الإِيمان، والمعوِّقون، والمتثاقلون والمبطنون، والخائنون، ولكن هؤلاء جميعاً لم يكن لهم وزنٌ في ذلك المجتمع، ولا قدرةٌ على تحويل مجراه؛ لأنَّ التَّيار الدَّافق هو تيار أولئك المؤمنين الصَّادقي الإِيمان، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم، الملتزمين بتعاليم هذا الدِّين.
2- أنَّه المجتمع الَّذي تحقَّق فيه أعلى مستويات المعنى الحقيقي لـ"الأمَّة"، فليست الأمَّة مجرَّد مجموعةٍ من البشر جمعتهم وحدة اللُّغة، ووحدة الأرض، ووحدة المصالح، فتلك هي الرَّوابط التي تربط البشر في الجاهليَّة، فإِن تكونت منهم أمَّةٌ فهي أمَّةٌ جاهليَّة، أمَّا الأمَّة بمعناها الرَّباني ـ فهي الأمَّة الَّتي تربط بينها رابطة العقيدة، بصرف النَّظر عن اللُّغة، والجنس، واللَّون، ومصالح الأرض القريبة، وهذه لم تتحقَّق في التاريخ وحده كما تحقَّقت في الأمَّة الإِسلاميَّة، فالأمَّة الإِسلاميَّة هي الَّتي حقَّقت معنى الأمَّة أطول فترةٍ من الزَّمن عرفتها الأرض، أمَّةٌ لا تقوم على عصبية الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح الأرضيَّة، إِنَّما هو رباط العقيدة يربط بين العربيِّ، والحبشيِّ، والرُّوميِّ، والفارسيِّ، يربط بين البلاد المفتوحة والأمَّة الفاتحة على أساس الأخوَّة الكاملة في الدِّين، ولئن كان معنى الأمَّة قد حقَّقته هذه الأمَّة أطول فترةٍ عرفتها الأرض؛ فقد كانت فترة صدر الإِسلام أزهى فترةٍ تحقَّقت فيها معاني الإِسلام كلُّها بما فيها معنى الأمَّة على نحوٍ غير مسبوقٍ.
3 ـ أنَّه مجتمعٌ أخلاقيٌّ يقوم على قاعدةٍ أخلاقيَّة واضحةٍ مستمدَّةٍ من أوامر الدِّين وتوجيهاته، وهي قاعدةٌ لا تشمل علاقات الجنسين وحدها، وإِن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع، فهو خالٍ من التبرُّج، ومن فوضى الاختلاط، وخالٍ من كلِّ ما يخدش الحياء من فعلٍ، أو قولٍ، أو إِشارةٍ، وخالٍ من الفاحشة إِلا القليل الَّذي لا يخلو منه مجتمعٌ على الإِطلاق، ولكنَّ القاعدة الأخلاقيَّة أوسع بكثير من علاقات الجنسين، فهي تشمل السِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والفكر، والتَّعبير، فالحكم قائمٌ على أخلاقيات الإِسلام، والعلاقاتُ الاقتصاديَّة من بيعٍ، وشراءٍ، وتبادلٍ، واستغلالٍ للمال قائمةٌ على أخلاقيَّات الإسلام، وعلاقاتُ النَّاس في المجتمع قائمةٌ على الصِّدق، والأمانة، والإخلاص، والتَّعاون، والحبِّ، لا غمز، ولا لمز، ولا نميمة، ولا بالقاذف للأعراض.
4- أنَّه مجتمعٌ جادٌّ مشغولٌ بمعالي الأمور، لا بسفسافها، وليس الجدُّ بالضَّرورة عبوساً وصرامةً، ولكنَّه روحٌ تبعث الهمَّة في النَّاس، وتحثُّ على النَّشاط، والعمل، والحركة، كما أنَّ اهتمامات النَّاس هي اهتماماتٌ أعلى، وأبعد من واقع الحسِّ القريب، وليست فيه سماتُ المجتمع الفارغة المترهِّلة، الَّتي تتسكَّع في البيوت، وفي الطرقات تبحث عن وسيلةٍ لقتل الوقت من شدَّة الفراغ.
5- أنَّه مجتمعٌ مجنَّد للعمل في كلِّ اتجاهٍ، تلمس فيه روح الجنديَّة واضحةً، لا في القتال في سبيل الله فحسب، وإِن كان القتال في سبيل الله قد شغل حيِّزاً كبيراً من حياة هذا المجتمع، ولكن في جميع الاتِّجاهات، فالكلُّ متأهِّبٌ للعمل في اللحظة الَّتي يطلب منه فيها العمل، ومن ثَمَّ لم يكن في حاجةٍ إِلى تعبئةٍ عسكريَّةٍ، ولا مدنيَّة، فهو معبَّأٌ من تلقاء نفسه بدافع العقيدة، وبتأثير شحنتها الدَّافعة لبذل النَّشاط في كلِّ اتِّجاه.
6 ـ أنَّه مجتمعٌ متعبِّدٌ، تلمس روح العبادة واضحةً في تصرُّفاته، ليس فقط في أداء الفرائض، والتَّطوُّع بالنَّوافل ابتغاء مرضاة الله، ولكن في أداء الأعمال جميعاً، فالعمل في حسِّه عبادةٌ يؤدِّيه بروح العبادة، الحاكم يسوس رعيَّته بروح العبادة، والمعلِّم الذي يعلِّم القران، ويفقِّه الناس في الدِّين يعلم بروح العبادة، والتَّاجر الَّذي يراعي الله في بيعه وشرائه يفعل ذلك بروح العبادة، والزَّوج يرعى بيته بروح العبادة، والزَّوجة ترعى بيتها بروح العبادة، تحقيقاً لتوجيه رسول الله(ص): "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته".
هذه من أهم سمات عصر الصِّدِّيق؛ الَّذي هو بداية الخلافة الرَّاشدة، وهذه السِّمات جعلته مجتمعاً مسلماً في أعلى افاقه، وهي الَّتي جعلت هذه الفترة هي الفترة المثاليَّة في تاريخ الإِسلام، كما أنَّها هي الَّتي ساعدت في نشر هذا الدِّين بالسُّرعة العجيبة الَّتي انتشر بها، فحركة الفتح ذاتها من أسرع حركات الفتح في التاريخ كلِّه، بحيث شملت في أقل من خمسين عاماً أرضاً تمتدُّ من المحيط غرباً إِلى الهند شرقاً، وهي ظاهرةٌ في ذاتها تستحقُّ التَّسجيل، والإِبراز، وكذلك دخول النَّاس في الإِسلام في البلاد المفتوحة بلا قهرٍ، ولا ضغطٍ، وقد كانت تلك السِّمات الَّتي اشتمل عليها المجتمع المسلم هي الرَّصيد الحقيقي لهذه الظَّاهرة، فقد أحبَّ الناسُ الإِسلامَ لمَّا رأوه مُطبَّقاً على هذه الصُّورة العجيبة الوضَّاءة، فأحبُّوا أن يكونوا من بين معتنقيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.