يقول هيربرت ماركوز، أحد أعلام مدرسة فرانكفورت، بكتابهِ (العقل والثورة)، واصفاً موت الثورة وتخاذل الثوار أمام صعود الميكنة والتكنولوجيا:
ما قبل الثورة الصناعية كان الجهد البدني المُرهق والمصحوب بالاضطهاد من قبل القطاع ورؤساء العمل هو الحافز العظيم للثورة ضد الأنظمة السائدة، أما الآن وبعد عصر الصناعة وانتشار المعامل ووفرة الماكينات فإن أصحاب البدلات البيضاء (المدراء) قد زاد عددهم عن أصحاب البدلات الزرقاء (العمال) لأن الآلة أصبحت تحتاج عاملاً واحداً يديرها! بعد أن كان عشرات العمال يؤدون وظيفة هذه الآلة الواحدة فقط، مما أصاب الآخرين بالكسل والخمول بعد تحولهم من عمال إلى مدراء وعاطلين بسبب القفزة في مجال التكنولوجيا والتي أزاحت الجهد البدني والذي هو بدوره يلغي فكرة الاضطهاد الجسماني المباشر، وإن كان حاضراً ذلك الاضطهاد فإنه قد تحول لاضطهاد عقابي إداري مالي إلخ… وهذا الأخير لا تأثير له طالما أنه بعيد عن البدن والتأثير المباشر بالعامل بسبب الراحة التي تمنحها الماكينة للجسد (بتصرف).
الأدب والتكنولوجيا:
يعتكف الكاتب سابقاً لأعوام لإنتاج رواية أو حكاية طويلة مثل رواية الأخوة لديستوفسكي أو أي منجز ضخم قديماً لينال إعجاب ورضاء ونقل تجربة تفصيلية لعموم المجتمع والتي يتلاقفها كأي أعجوبة أو طفرة لا يضاهيها شيء، وكل ورقة وغلاف وحرف فيها هو عبارة عن جهد حقيقي للكاتب والقارئ والذي بدوره هو الأخير لا يكل ولا يمل؛ بسبب طول وضخامة المنجز الأدبي، بل يتفاخر بتأويلاتهِ الخاصة لكل ما يجد في هذهِ القطعة الفنية ولا يستغني عن أهمية حفظ هذهِ القصص مهما طالت بل يجد فيها منافسة إنسانية ومتعة لا تماثلها متعة، الآن لا يجد الكاتب مبرراً لكتابة رواية من ألف صفحة بل يجد في سطرين على صفحة فيسبوك ما لم يجده المتنبي أو بوشكين أو نيتشه!
لقد سُلبت التفاصيل الكاملة والدقيقة وهزمها عصر السرعة بطريقة بشعة تاركاً الإنسان مثل أية لحظة عابرة لا قيمة لها أمام هذا التأريخ الإنساني الطويل،
لقد ماتت المنافسة الإنسانية بفعل الاختصار التكنولوجي الذي اجتاح كل شيءٍ حرفياً، بل وضعت التكنولوجيا حداً جديداً لتقدم الإنسان بدنياً وذهنياً وهو يقتاد ذاته بذاته من مختصر سريع إلى أسرع من سطرين إلى كلمة دون أن يتحمل عبء اللاتناسب بين حجم المشاعر وضيق العبارة!
المسيرة الخطيرة
الذكاء الصناعي الآن يجيب على كل شيء، وهو بذلك يبني بينك وبين الكتاب وبين المعلومة الحية وبين الممارسة الفكرية المباشرة وبين السفر، جداراً سميكاً يمنعك من صيد السمك ويهديك سمكة ذهبية اللون طازجة وجاهزة!
وقد يصل الأمر، كما تشير أبحاث التقدم التكنولوجي، إلى ظاهرة إحلال بين البشر والآلات وموت الوظائف والحرف والصناعات اليدوية المباشرة، وهذا سينتج مليارات من الأغبياء الذين سيتناولون الأطعمة التي تعدها الآلات والتي تزرعها الآلات والتي تطورها جينياً الآلات!
الثورة والتكنولوجيا
قتلت الثورات الحديثة والنزعات الثورية والسخط العام كذلك بفعل مواقع التواصل والتفاعل السريع الذي لا يشبه أرض الواقع مطلقاً، وباتت تستنزف كل ليلة آلاف الثورات النفسية والقتال الوهمي مع أعداء ربما لا قيمة لهم ولا وجود أصلاً، وتصعد قادة وتطمس آخرين دون مشروع.
التكنولوجيا قدمت الشعارات القصيرة على المشاريع الحقيقية وقدمت الإعلام السياسي على الفعل السياسي وسوقت الجموع إلى صاحب الاختصارات السياسية وأوهمت الإنسان بضيق الوقت وعدم اللحاق بالحضارة دون هذهِ العملية التكنولوجية، وباعتقادي أن اختلاف السرعات بين التكنولوجيا والفعل الإنساني الطبيعي هو من يحفز على القبول بالحلول السريعة التي تصنع الكوارث اليومية في الأرض.
وفي النهاية، ليست التكنولوجيا سيئة بل تحجيمها للفعل الإنساني والطبيعة الإنسانية ولقد تحولت إلى أداة لجريمة استراتيجية عالمية، لن ينتبه لها أحد أبداً لأن مقتضيات العصر السريعة تسوق جموعنا هذهِ إلى القبول العام بمخرجات العصر التقنية، والتي تستعبدنا في كل لحظة متاحة.
هذهِ الجموع تستحق المكاشفة أمام التاريخ وتستحق أن نضع منهجاً لإعادة الإنسان إلى عصر الشعور بالذات الحقيقية بدلاً من مشاعر التكنولوجيا ومخرجاتها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.