“دبلوماسية البينغ بونغ”.. عن الوجه السياسي للرياضة

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/12 الساعة 14:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/12 الساعة 14:03 بتوقيت غرينتش

استُخدمت الرياضة منذ القدم كوسيلة لإظهار القوة والسطوة، فكانت هي المعيار الذي يستخدم لتحديد القائد وحاشيته، وهي الأساس الذي يتم على أساسه رسم حدود الدول ومساحتها، أما في الوقت الحالي فتعتبر الرياضة أداة سياسية جديدة للدول لفرض وجودها وتقديم رسالتها للعالم الآخر وكذا لتحسين العلاقات بين الدول والعكس، لا نقول إن الرياضة هي العامل والمحرك الأساسي للسياسة الدولية إلا أنها قد تسبب أزمات سياسية بين الدول أو تقوم بحلها في بعض المرات.

تعتبر الألعاب الرياضية والمنافسات الرسمية ميداناً للتعبير السياسي على الصعيد الرسمي للدولة لإسماع كلمتها للعالم من خلال رفض مشاركة دولة في منافسة هي من تنظمها أو كذلك رفض المشاركة في حد ذاته لدى دولة أخرى كما يتم في بعض المرات توظيف أو الزج بالجماهير حتى تردد شعارات تطالب فيها بحقوقها. وتعبر عن آرائها السياسية.

ظهر مؤخراً سياسيون رياضيون يحملون أعلام بلادهم وينشرون رسالة دولهم إلى العالم. في القديم كان السفير هو من يمثل بلاده، أما الآن فقد أصبح الرياضي يتجاوز ذلك ويمثل بلاده أحسن من أي سفير فأصبحت إحدى أهم أدوات الدبلوماسية الشعبية من خلال تعزيز العلاقات الثنائية وتبادل الخبرات من مدربين ولاعبين بالإضافة إلى تمكن الرياضة من تسليط الضوء على أمور وقضايا عديدة كان السياسيون يركزون عليها في اجتماعاتهم وخطاباتهم؛ مثل الصحة والبيئة وحقوق الإنسان والعمالة والجوع.

أصبح الرياضي الآن يمثل مؤسسة أو موقعاً أو حياً أو دولة، وخلال مشواره الرياضي يتنافس مع مؤسسات مشابهة فيتم نسب الفوز أو الخسارة لتلك المؤسسة أو الحي أو الدولة، ومع مرور الوقت أصبح هذا الفوز من منظور الكثير يعكس قوة ومتانة الدولة ككل وكفاءة نظمها. وبالتالي الإبقاء على سيطرة النخبة الحاكمة لهذه الدولة من خلال نشر الاعتقاد بأن النجاح المحقق هو نتيجة للعمل الجاد والمنظم الذي تقوم به الدولة في كافة المجالات وغض الطرف عن المشكلات الاجتماعية الأخرى.

وعلى مر التاريخ مررنا بأحداث كثيرة تداخلت فيه الرياضة مع السياسة مؤدية إلى تحسين وضع أو علاقة سياسية أو العكس وظهور مفاهيم جديد للعالم، ونذكر هنا البطل العالمي محمد علي لحظة رفضه الالتحاق بالجيش الأمريكي في حرب فيتنام والتأثير الذي أحدثه على الكل. محمد علي لم يكن رئيساً ولا وزيراً ولم يتطلع إلى أي منصب سياسي، بل كان رياضياً غير أن قرار رفضه لحكومة بلاده كان له بالغ الأثر في تغيير وجهة نظر الكثير من الأمريكيين لسياسة بلادهم. محمد علي منح للرياضة بُعداً آخر غير الهزيمة والفور والألقاب والميداليات فأدخلها عالم الجدال والسياسة مما حوله إلى رمز الحركة المعارضة للحرب والنضال من أجل السلام.

ومع بداية السبعينيات ظهر مصطلح جديد هو دبلوماسية البينغ بونغ وتعود جذوره التاريخية إلى سنة 1971 م عندما تأخر اللاعب الأمريكي جلين كوان عن حافلة بلاده المشاركة في بطولة العالم لكرة الطاولة فلم يجد سوى أن يستقل حافلة المنتخب الصيني، وقتها كانت العلاقات جد متوترة بين البلدين ليقابل بنظرات غريبة من قبل الفريق الصيني، غير أن اللاعب تسي تونغ بادر إليه بالتحية ومفتتحاً معه الحوار مخالفاً بذلك تعليمات المسؤولين الصارمة بعدم مخالطة الأمريكيين، ومقدماً أيضاً له هدية، فما كان من اللاعب الأمريكي إلى أن بادله الهدية في اليوم الموالي. كانت هذه العلاقة التي نشأت بين اللاعبين والتي تناقلتها وسائل إعلام كبيرة في وقتها هي بوادر كسر الجليد بين الصين وأمريكا وتم اعتبار اللاعب تشاونغ تشي تونغ أفضل دبلوماسي في البلاد خلال تلك الفترة.

ومنذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا استُخدمت دبلوماسية كرة الطاولة في كثير من المناسبات من خلال تنظيم المباريات والمسابقات والتقاء الرؤساء والسياسيين خلالها وتبادل الحوار واعتبر هذا النوع من الدبلوماسية هو أفضل الأنواع.

إن أكثر الزعماء والرؤساء يؤمنون بأن الرياضة لها سلطة استثنائية وخارقة على توحيد الشعوب بطريقة سلمية ومحاربة العنصرية والقدرة على تعزيز العلاقات السياسية على غرار الرئيس التاريخي لجنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، كانت جنوب إفريقيا غنية بالثروات الطبيعية التي تجعلها من الدول الكبيرة فهي أرض الذهب والألماس إلا أنها كانت تعاني من العنصرية التي تعيق مسار تطورها. كان يحتاج مانديلا إلى توحيد شعبه لكي تصبح جنوب إفريقيا أقوى فما كان منه إلا أن استعمل الرياضة الأكثر شعبية في البلد وهي الرجبي والتي كان ينظر لها في ذلك الوقت على أنها رياضة بيضاء تمارس من قبل الأقلية البيض حيث كان الجمهور لا يحضر المباريات وإذ حضر فيفضل أن يشجع الفريق المنافس على أن يشجع الفريق الأبيض وكان متوقعاً من الرئيس أن يقوم باستبعاد الفريق لما لاقاه من عذاب واضطهاد في سجون البيض غير أنه رأى فيها فرصة لتعزيز التضامن والوحدة في البلاد فتم تشجيعهم ليلتف البلد كله حول هذا الفريق وترتفع الروح المعنوية لهم ليحصل في سنة 1995 على كأس العالم للرجبي وكانت هذه أولى خطوات توحيد الشعب والقضاء على العنصرية في البلاد.

وكذلك هو الحال عندنا فلم تكن الرياضة بعيدة عن السياسة في عالمنا العربي فتم استعمالها في بعض الدول العربية كأداة لإلهاء وتنويم الشعوب لضمان عدم مطالبتهم بحقوقهم أو من أجل تمرير مشروع سياسي أو تقبل فكرة خاطئة أو صرف الأنظار عن مشاكل داخلية من خلال تغطية ودعم مشاريع رياضية كما حدث مع النظامين السابقين المصري والجزائري؛ حيث استغلت عائلة مبارك الرياضة لتعزيز الشرعية والبقاء في الحكم من خلال الإنجازات التي كانت تحققها كتيبة المدرب حسن شحاتة في ذلك الوقت والتغاضي عن الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها البلاد حتى إن بعض المختصين كان يقول إن عدم تأهل مصر إلى كأس العالم 2010 عجّل من سقوط عائلة مبارك من الكرسي أو أفشل عملية توريث السلطة من حسني مبارك إلى نجله جمال. وبعد انتهاء حكم مبارك بعد ثورة 25 يناير أصبح جلياً للشعب المصري الدور السياسي الذي تلعبه كرة القدم في ظل النظام القديم.

كذلك هو الحال في الجانب الجزائري في تلك الفترة حيث استغل نظام الرئيس بوتفليقة الفرصة لحشد الجمهور سياسياً لصالحه بعدما أمر بنقل المشجعين الجزائريين إلى السودان بطائرات الجيش مجاناً.

أصبح الحال في تلك الفترة يشبه إلى حد كبير خوض معركة وهمية في قالب رياضي من أجل زيادة ترابط المواطنين وشد أواصرهم وحشدهم حول الرئيس لدعمه سياسياً كل ذلك من أجل الاستمرار في السلطة وحجب جميع حقوق المواطنين وتغطية جميع المشاكل التي كانت في مجال التعليم والصحة والاقتصاد والفلاحة… إلخ من خلال إظهار أجواء الفرح بعد الانتصار وترديد الأغاني الوطنية والتزين بالأعلام الوطنية واستقبال اللاعبين في الشوارع استقبال الفاتحين؛ لتسويقه للمواطن كأنه انتصار للدول في جميع القطاعات.

فكانت هذه المباراة هي صمام الشرعية الشعبوية لنظام بوتفليقة واستمراره في الحكم بعد الفوز في أم درمان، بينما كان لها بالغ الأثر في الإطاحة بنظام مبارك ونسف خطة التوريث التي كانت تطبخ لصالح جمال مبارك نجل الرئيس.

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها الرياضة لصالح السياسة في الجزائر، ففي سنة 2006 استخدم نظام بوتفليقة الوجه الرياضي المعروف على الساحة في ذلك الوقت اللاعب الفرنسي زين الدين زيدان ذا الأصول الجزائرية كواجهة دعائية حيث سارع إلى دعوته إلى الجزائر مستغلين النطحة الشهيرة له في مونديال 2006 الذي دافع بها عن شرف عائلته الذي انتُهك من قبل اللاعب الإيطالي ماتيرازي كي يربطوها بالشهامة والرجولة والدفاع عن الشرف والكرامة التي يتمتع بها الجزائري ليتم تكريمه من قبل الرئيس بوتفليقة بوسام الأثير، أعلى وسام استحقاق في الجزائر، على الرغم من أنه يحمل الجنسية الفرنسية وجميع إنجازاته الرياضية كانت بعلم فرنسا إلا أن النظام السابق عرف كيف يستغل شهرته الرياضية لصالحه من خلال اعتبار النطحة التي قام بها نتاجاً للعقلية الجزائرية التي لا تقبل أن تهان، وبالتالي اعتُبر زيدان من الشخصيات التي تقود حملة الرئيس بوتفليقة في الانتخابات الرئاسية في الداخل والخارج، خصوصاً في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا؛ حيث لعب في كل من هذه الدول الثلاث، ويتمتع بشعبية طاغية فيها، الأمر الذي سيجلب لبوتفليقة أصوات الجزائريين في الخارج.

وبالتالي يمكن أن نقول إن دخول السياسة عالم الرياضة في العصر الحالي أمر عادي وبديهي، خاصة أن الرياضة تستطيع جمع حشد كبير في مكان واحد وهو ما تعجز عنه السياسة في كثير من الأحيان ما يشكل مطمع السياسيين والأنظمة وأن نجاح الرياضة في دولة ما يعتبر المرآة العاكسة للوجه السياسي الجيد لهذه الدولة وتطورها ونجاحها في المجالات الأخرى.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نور الدين نسيل
كاتب جزائري
كاتب جزائري، حاصل على درجة الدكتواره في التدريب الرياضي
تحميل المزيد