يكرهون اسمي محمد وفاطمة! القصص المأساوية للحرب العنصرية على الأسماء الإسلامية بفرنسا

عربي بوست
تم النشر: 2023/06/10 الساعة 09:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/10 الساعة 09:21 بتوقيت غرينتش
مسلمون في فرنسا/ shutterstock

قبل أسابيع قليلة من حادثة الاعتداء الشهير على مقر جريدة شارلي إيبدو، الذي تلا نشرها الرسوم المسيئة لرسول الإسلام، أصدر الكاتب الفرنسي "ميشيل ويلبيك" روايةً خيالية عنوانها "سوميسيون"، أو "الاستسلام"، مختزلاً فيها الخوف الفرنسي المكثف من الإسلام، مهيّجاً مشاعر الكراهية ضد المسلمين والأفارقة والمهاجرين.

وفي روايته الخيالية تلك، أعلن ويلبيك السقوط النهائي للهوية الفرنسية واستسلامها الكارثي أمام الإسلام، بعدما توقع فوز زعيم حزب الأخوة الإسلامي، وهو فرنسي مسلم يدعى محمد بن عباس برئاسيات فرنسا 2022، عقب تحالفه المثير مع اليسار الفرنسي واليمين المعتدل ضد زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبان. 

وأثار ذلك العمل المتخيل حماسة قوى اليمين الفرنسي، التي وجدت فيه ملاذاً للمقاومة الثقافية، فيما اعتبرت قوى الوسط واليسار تلك الرواية مجرد تخاريف عنصرية، بيد أن ذلك الكتاب الذي حقق مبيعات خرافية بلغت 2.5 مليون نسخة في أسابيع، كرّس الانطباع النهائي بأن عقل الثقافة العلمانية الفرنسية وجد هويته في تلك الرواية، التي نطقت بالصوت العالي بما يفكر فيه بين الكواليس بالصوت المنخفض.

وفور ذلك رد الكاتب البريطاني البولندي، ذو الأصل اليهودي، سيجموند بومن، على تلك المخاوف بتجرد خالص، حتى بدا أنه أكثر موضوعية من العلمانية الفرنسية، ناقداً النظام الأوروبي عموماً والفرنسي برمته لمّا كتب: "السيستام يعترف بشرعية الثقافات المختلفة عن ثقافتنا، لكنه يرفض ويتجاهل كل ما تحمله هذه الثقافات من قداسة وما لا يقبل النقاش. هذا النوع من انعدام الاحترام اتضح أنه مهين… نحن نعيش في مجتمع ملغم دون أن تكون لنا القدرة على معرفة الانفجار القادم".

مرّ العام 2022 ولم يصبح محمد بن عباس رئيساً للجمهورية "الإسلامية" الفرنسية، كما توقع هيولبيك، لكن الحرب على "محمد" و"أتباع محمد" لا تزال مستمرة، تارة تحت مسمى الحجاب، وتارة أخرى تحت بند الأسماء العربية والإسلامية، لا بل شملت أيضاً الأسماء الآسيوية والإفريقية، ليكتشف العالم قاموساً عنصرياً جديداً، يدعو فيه إيريك زمور، الفرنسي اليهودي ذو الأصول الجزائرية، الوجه الآخر لويلبيك، إلى منع تداول هذه الأسماء، خشية التبديل العرقي للمجتمع الفرنسي.

وأما الانفجار الذي حذر منه بومن فاتضح ألا محيد عنه إذا لم تتخلص العلمانية الفرنسية ذات التشدد الوطني الأحادي اليعقوبي من أزمتها التاريخية الراهنة، العاجزة عن قراءة ما اعترى النسيج الاجتماعي الفرنسي من هجرات منذ أواسط القرن الماضي، سجينة تجربتها المريرة مع الكنيسة الرافضة للحرية الموالية للملكية، وحبيسة شعار "اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس"، الذي ظهر في غمرة الثورة الفرنسية العام 1789.

1/ العلمانية: بين فرض الاندماج ورفض الاستيعاب 

بلا ريب يتضح جلياً أن أزمة العلمانية الفرنسية هي رفض النظر للحقيقة الاجتماعية كما هي، فقد طرأت على المجتمع الفرنسي تغييرات كبيرة، أنتجت مجتمعاً متنوعاً يحمل ثقافات متعددة، وسرعان ما تمظهر تكلس العلمانية في مفاهيم قديمة جعلتها غير قادرة على أن تستوعب ثقافات مغايرة، صارت جزءاً أصيلاً من مجتمع فرنسي لم يعد "غولياً" بالمعنى العرقي بمفاهيمه اليعقوبية للدولة المسيطرة ولا "لائكياً"، فانتفى التكيف لاحتواء ثقافات الهجرة العربية الإسلامية والإفريقية، القادمة من تلك الشعوب التي تختلف عقائدياً عنها، والتي يشكل الدين لديها عاملاً أساسياً في ثقافتها الخاصة والعامة داخل مجتمع علماني يعارض الدين من المنشأ والمنطلق، حتى صار لادينية تريد فرضها على الجميع، بعدما صار "الفرد دين نفسه".

 وانتهت تلك الرغبة المغالبة لسنن المجتمعات وتطورها، إلى مطبات أخلاقية عويصة التفسير والقبول، حتى لدى أقل وأشد الأوساط الغربية المحافظة، على حد سواء، مثل تقنين الزواج المثلي غير الطبيعي، وفقدان القدرة على مواجهة التساؤلات الوجودية والفلسفية العميقة، المرتبطة بالحياة والموت والمصير، ما يفسر بلا شك لجوء الفرنسيين أنفسهم لاعتناق الإسلام تارة والتوجه نحو الثقافات الهندية والروحية الشرقية تارة أخرى.

كانت سياسة الاندماج التي يطرحها الفرنسيون فكرة مسيطرة على القلق الثقافي والسياسي الفرنسي منذ عقود طويلة، بوحي التخوف من انطماس الهوية الفرنسية في ظل الخليط البشري الهائل الذي جاء من المستعمرات السابقة لأسباب تاريخية محضة، وقد حمل هذا الخليط البشري معتقداته الدينية، وظل محتفظاً بها في الوجدان والعقل رغم أنه لبس البدلة وربطة العنق، ونسي تماماً لغاته الأصلية، فاعتقدت النخب الفرنسية أن باستطاعتها بحكم الإقامة الطويلة والعمل والنشأة والمدرسة، أن الأجيال الجديدة ستتغير في العمق، لتكتشف أن المدنية حولت المظهر لكن العلمانية لم تغير المخبر. 

في الأعوام السابقة شهدت فرنسا انفتاحاً كبيراً على ثقافات الشعوب المهاجرة، والتي صارت شعوباً مواطنة، غير أنها كشفت في مسألة الحجاب التخوف على الهوية وحقوق المرأة، وظن هؤلاء أن الأمر يمكن معالجته في يسر من خلال الحظر وشن حملات إعلامية، بيد أن ذلك لم يغنِ في القضية شيئاً، لينتهي العراك بقبول الحجاب من وحي اجتهاد العلمانية التي أدرجته ضمن الحريات الشخصية.

2/ الحرب على الأسماء: محمد احمل حقيبتك 

في سبعينيات القرن الماضي، أنتج الأديب الفرنكفوني الجزائري كاتب ياسين مسرحية "محمد احمل حقيبتك"، ملخصاً العنصرية التي تطال المهاجرين المغاربيين جرّاء أسمائهم، وتلك العنصرية الخفية دفعت كثيراً من المهاجرين المغاربيين سواء أكانوا جزائريين أو تونسيين أو مغربيين، إلى الاحتياط القَبْلي والبعدي من آثار تلك العنصرية، التي تعتبر كل مسلم ذكر هو "محمد"، وكل أنثى مسلمة هي "فاطمة". هكذا ستلجأ كثير من الأسر العربية والإفريقية والمسلمة إلى مواجهة الاندماج الابتلاعي للهوية إلى مرونة ظاهرية هي الدمج بين أسماء عربية وفرنسية، وعلى نحو ما ستفسر لي صديقة جزائرية الأمر وهي تكشف لي أنها اضطرت لإدراج اسمَي "باتريك" و"شارل" إلى جانب اسمين آخرين هما "رياض" و"أنيس"، من باب حماية ابنيها من مخالب العنصرية، التي ما فتئت تلخص الفرد في الشعر والسحنة والحالة المدنية، وبما أن بعض سكان شمال إفريقيا هم بيض إفريقيا أو "أوروبيو الجنوب"، حسب التوصيف الساخر لجون ماري لوبان، فإن الاختباء خلف أسماء هوية مستلفة للتحايل على الهوية الحقيقية أصبح ضرورة يلجأ إليها الأولياء مكرهين لا أبطالاً، كما لو أنها "تقية" ضد استفحال ظاهرة حرمان أبنائهم من حقوقهم الطبيعية في التوظيف والعمل والارتقاء في السلم الاجتماعي، كما لو أن الأمر يتعلق بالتخفي عن محاكم التفتيش الإسبانية زمن سقوط الأندلس. ومن اليسير أن تلاحظ أن لاعبين مغاربيين ينشطون في دوريات أوروبية كبرى، يحملون أسماء أوروبية أو مزيجاً من الأسماء المختلطة، مثل الجزائريين كارل مجاني ومدحي حسن غريغوري، أو المغربي رومان سايس، ولأن الأمر لم يعد يكفي في بعض الحالات، فإن كاتباً جزائرياً سيجسد بقصته المدوّية مأساة الحالة المدنية.

3/ إيكزافييه لوكلارك: الوظيفة ثمن الهوية الاسمية 

رغم أن حميد آيت طالب، وهو جزائري من أمازيغ منطقة القبائل كان يحظى بنوع من الحظ القدري، حينما التحق بوالده لاستكمال دراسته بأرقى الكليات الفرنسية، باعتباره ابن مهاجر هو محمد سعيد آيت طالب، الذي رحل إلى فرنسا بعد الاستقلال طلباً للرزق، بعد سنوات قاسية عاشها خلال الأربعينيات، فاضطر رفقة أقرانه كما سجل ذلك الكاتب ألبير كامو، في تحقيقات صحفية أجراها بالمنطقة، للتناوش مع كلاب متشردة على بقايا النفاية سداً للجوع في أعوام "المجاعة"، ثم تعرضه للتعذيب على يد الجيش الفرنسي أثناء الثورة، قبل أن يستقر به الحال بمنطقة النورماندي عاملاً يومياً بمصانع الحديد. 

شق حميد أبواب الجامعة بنجاح فنال شهادتي ماستر من جامعة السوربون العتيدة، أملاً في تحقيق الاندماج في المجتمع الفرنسي، غير أنه وأمام التجاهل المطلق لكل طلبات العمل التي أبرقها مدبجة بتلك الشهادات، سيقرر أمراً جللاً بنصيحة من زملائه الذين أفهموه، بأن اسمه العربي هو العائق الكبير الذي يقف أمام مصيره المهني، لذا سيقرر ذلك الذي أصبح كاتباً روائياً، كان أصدر مؤلفاً مخلداً لوالده بعنوان "رجل بلا عنوان" أن يغير اسمه نهائياً، عبر ترجمة شبه حرفية له، فأصبح منذ العام 2010 وهو في الثلاثينيات شخصاً باسم جديد هو إيكزافييه لوكلارك.

 الأسماء الإسلامية
حميد آيت طالب

يروي حميد السابق كيف أن حياة إيكزافييه الجديدة تغيرت رأساً على عقب بعد تقمصه ذلك الاسم الفرنسي الخالص، فيقول في مقابلة مع إذاعة فرنس إنتر بعدما أمسى كاتباً ذائع الصيت: "من المؤسف أن أقول ذلك، أرسلت عشرات الطلبات باسمي القديم وبصفتي حاملاً لشهادتي ماستر من السوربون دون أن أتلقى رداً، لكني وبعد أسبوع واحد من تغييره تلقيت مئات الاتصالات لتوظيفي، لم أعد في حاجة للاتصال بالمؤسسات للعمل، بل صاروا يأتون إليّ بحثاً عني".

شكلت اعترافاته صدمة في الأوساط الإعلامية والثقافية الفرنسية المعتدلة، هذا على الرغم من أنه يعتبر ما أقدم عليه خياراً شخصياً واعياً وصعباً للغاية، فرض عليه الخروج من جلده السابق، سعياً وراء مصيره المعيشي، إلا أنه كرس لدى المصدومين نموذج الضحية المفضلة التي تفرضها سياسة الاندماج الفرنسية، الاسم المهذب للابتلاع بدل الاستيعاب، كما لو أن مصيرك مرتبط بالاسم الذي تحمله لا بالشهادات التي تحملها. 

 الأسماء الإسلامية

4/ 12% من المواليد الجدد يحملون أسماء عربية إسلامية

ما فتئ إيريك زمور، الكاتب ومرشح الرئاسيات الفرنسية السابق، يطالب بإلغاء القوانين التي ترخص تسمية العرب والمسلمين والمهاجرين بأسماء غير فرنسية، وسن أخرى تقرن الاستفادة من الإقامة والجنسية والمزايا الاجتماعية بالذوبان المطلق في العلمانية الفرنسية، كشرط لحيازة المواطنة الفرنسية.

وبهدف مقارعة ما يعتبره أسلمة فرنسا، أشار في تجمع سياسي بأن الأسماء العربية الإسلامية الممنوحة للمواليد الجدد بلغت 22% العام 2021 مقارنة بنسبة لم تتخطَّ 1% سنة 1960، غير أن مؤسسة إسلام فرنسا عارضت تلك الإحصائيات التي قدمها زمور، مشيرة أن النسبة الحقيقية لا تتعدى 11.7% مقارنة بـ2.24%، 1962، مشيرة إلى تراجع بـ7% منذ العام 2017، إزاء انتشار موجة جديدة من الأسماء البيضاء المحايدة والمشتركة بين الديانات والثقافات مثل آدم وإسماعيل وسارة ونادية وصونيا، التي يصعب التحديد العرقي أو الديني لحامليها، كما لو أن كثيراً من العائلات صارت تختار أسماء يصعب فرزها طائفياً حماية لذويها من التصفيف الاجتماعي ووضع العصي في دواليب مستقبلهم المهني والاجتماعي. 

رغم تلك الحملات الشرسة التي ما فتئت تتزايد مع الصعود الصاروخي لليمين المتطرف في أوروبا، يرفض المهاجرون الابتزاز الثقافي فيما يتعلق بالأسماء حاملة الهوية، فقد يلجأون تحت الظروف إلى اختيار أسماء مشتركة، لكنهم يرفضون الاندماج الإلغائي والفرز على "الاسم الشخصي" الذي لا يختلف عن عنصرية "لون البشرة"، وكما أن محمد بن عباس لم يصبح رئيساً لفرنسا، يبدو أيضاً أن محمد لن يحمل حقيبته، إذ تشير إحصائيات رسمية إلى أن هذا الاسم صار من أكثر الأسماء انتشاراً في فرنسا العام 2018 بعد اسمي توم وآرون. 

5/ الديمقراطية الأنجلوساكسونية: الدواء المثالي للعلمانية المريضة 

لقد صار محمد الاسم الرمزي للمسلمين سواء أكانوا عرباً أو أمازيغ أو تركماناً أو أفارقة، جزءا من النسيج الفرنسي، ومواطناً يطالب بالحق في الاحترام، اعتباراً لتضحيات أجداده الذين سقطوا دفاعاً عن وجود فرنسا خلال الحربين العالميتين، وأي تنافٍ مع هذا المبدأ سيجعل من مسلمي فرنسا، بمن فيهم أولئك الفرنسيون الذين اعتنقوا الإسلام واختاروا في اتجاه معاكس أسماء عربية إسلامية، خارج مفهوم المواطنة التي تتأسس عليها الجمهورية.

ويكشف هذا بما لا يقبل الريبة بأن فرنسا صارت أكبر من علمانية لا تتسع للجميع، بسبب رفض النظر إلى الواقع السوسيولجي الجديد، كما لو أنها تحاول إخفاء وجود هؤلاء من سجلات الحالة المدنية، بعدما عجزت عن محوهم في أرض الواقع. 

إن مشكلة فرنسا الأساسية هي وقوعها ضحية لأيديولوجيتها العلمانية التي حققت مكاسب جمة في وقت من الأوقات، من بينها احتضان مهاجرين، بيد أنها ترفض أن تتحمل تبعات ذلك، مثلما نبه إليه سيجموند باوند، والحل كما يراه مثقفون هو أن تجلس قليلاً في مدرسة الديمقراطية الأنجلوساكسونية، التي لا تعادي الديانات والهويات، بل تتأقلم معها باحترام القانون الجامع والمنظم للعلاقات بين الأفراد، باعتبار أن الديمقراطية الأمريكية والبريطانية نظام تحكيم آلية تنظيم تقنية وسياسية ونظام تحكيم قانوني، لا نظام أحكام تتدخل بمضمون الهوية وشكلها في اللون والملبس والأسماء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد