رغم الجروح وحزن يفوح من كل نفس في بلادي على ما نحن فيه من حال وأهوال لا تلقى اهتمام من بيدهم الأمر ولا بال، رغم كل ما أصاب مصر من جروح لدرجة يظن بها الأعادي أنها انتهت وأصبحت جسداً بلا روح.
مصر التي كانت وما زالت ستبقى للعروبة والمروءة عاصمة، تأبى الركوع أو الخنوع أمام كل أيد آثمة، مهما سعى من بيده أمر البلاد والعباد بحكم سلطة غاشمة.
تلك هي الرسالة التي تركها لنا الجندي الشهيد ابن البلد محمد صلاح، التي كتبها بدمائه الزكية بالعملية البطولية التي نفذها على الأراضي الفسطينية المحتلة، وأسقط من العدو ثلاثة قتلى وأصاب آخرين قبل أن يرتقي شهيداً في أثناء اشتباكه مع قوات إضافية للعدو في "معبر نيتسانا".
عملية لم تتوقف أضرارها عند القتلى والمصابين في صفوف العدو، بل أحدثت حالة من الرعب والذعر في نفوس قادتهم، ووصفت بأنها عملية جهنمية وغير عادية نفذها شاب واحد، معتمداً على نفسه، متسلحاً بإيمانه، قطع مسافة لا تقل عن 5 كيلومترات تجاوز خلالها الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وفلسطين المحتلة، وأعد العدة وانتظر حتى انتصر.
أشارت تقارير الإعلام العبري إلى أنه لم يتلقّ أية مساعدة من أحد، ولم تكن تربطه أية روابط فكرية أو تنظيمية مع أية جماعة مسلحة، وكان قراره من نفسه، ووضع خطته وحدد موعد تنفيذ العملية، كما أنه لم يكتفِ بما حققه في الاشتباك الأول بقتل 3 جنود، بل انتظر وصول قوة عسكرية أخرى ليشتبك معها ويحدث فيها خسائر هي الأخرى.
هذه العملية جاءت مؤكدة على عدة أمور تدعو للفرح والسرور، تُشير إلى أنه مازالت القلوب مهما أُريد لها أن تتشوه عامرة بالنور:
1- موجة التطبيع العربية الرسمية، وحميمية العلاقات مع الاحتلال لم تنعكس على الشعوب العربية، وخاصة الشعب المصري، الذي مازال على موقفه من الاحتلال، ويراه عدوه الأول ومغتصباً ومحتلاً وقاتلاً، فالحكومات في وادي التطبيع، أما الشعوب فدائماً وأبداً خلف المقاومة بالمتاح من سبل الدعم والمساندة.
2- لم تفلح مساعي تغيير عقيدة الجندي المصري التي استمرت لأكثر من 10 سنوات من خلال تشويه المقاومة الفلسطينية في غزة والمشاركة في حصار أهلها، بل وبالدخول في حرب عنيفة مع الجماعات في سيناء، والتي خلفت آلاف الضحايا كلهم مصريون، فمنهم المدنيون ومنهم العسكريون، وعناصر الشرطة وأعضاء الجماعات المسلحة. لقد كانت معارك تُسعد الأعداء، مع كل سفك للدماء، بزي عسكري أو بدوي أو أبرياء.
3- فشل دراما الإسفاف التي دأبت على استهداف عقول الشباب المصري وتشويه نفوسهم بأعمال تدفعهم نحو التحلل من كل قيمة، وتُزين في عقولهم كل الأفكار اللئيمة، بالنظر إلى سن الشهيد البطل محمد صلاح سنجد أنه من الفئات العمرية التي عاشت مراحل طفولتها ومراهقتها على أغاني المهرجانات وما تحتوي عليه من انحطاط وإفساد للذوق وتشويه للفن، وشاهدت دراما موجهة لعقولهم تُسوّق للبلطجة والسطحية والانسياق وراء الشهوات والملذات. وتهدف هذه السياسات إلى خلق مساحات لتفريغ طاقة الشباب بما لا يزعج من بيدهم الأمر ويستقر معها السلطان أبد الدهر! مهما ترتب على ذلك من تدمير لمستقبل ملايين الشباب، وأهدر على بلادهم فرص الاستفادة منهم، وحرمهم من حقهم الأصيل في أن يتمتعوا بالعيش في بيئة تساعدهم على تطوير ذاتهم وتمكينهم من كافة سبل التعليم والتعلم.
4- خابت مساعي بعض القوى التي استهدفت، على مدار سنوات وسنوات من خلال أدوات إعلامية وفنية وثقافية وسياسية، تحييد الشعوب العربية وتفريغ عقول أجيالها من القضية الفلسطينية التي عاشت في نفوس وعقول وقلوب الشعوب العربية، فهي أم القضايا وأصل الحكاية في الصراع الأبدي مع الاحتلال، وسيبقى حتى الزوال.
لقد حطم الشهيد البطل محمد صلاح كل هذه المساعي، وأثبت أن الشعب المصري لم ولن يُهزم في قيمه ومبادئه وعقيدته مهما طال الزمن وكثرت المحن وأحاطت به الفتن، لن يحيد عن طريقه ولن يعادي إلا الأعادي، مهما علا صوت الإسفاف وزيّنته أدوات الفساد الإعلامي والدرامي.
استيقظ العدو على الحقيقة المرة التي بددت أوهامه وتساقطت معها أحلامه وآماله من أن سيناء أصبحت لهم، وجنود مصر غفر يسهرون على أمنهم، بعد سنوات من الصداقة غير المرغوبة شعبياً مع السلطات والتعاون الأمني الذي وصل إلى حد مشاركة طيران العدو في عمليات عسكرية في سيناء أثناء مواجهة الجماعات المسلحة في سنوات مضت. فالحقيقة هي أننا لسنا أصدقاء، وأن بيننا أرضاً ودماءً، وقوافل قضت نحبها من الشهداء وأخرى تنتظر، طال الوقت أو قصر، ستظل تنتظر حتى تتحرر الأرض وتنتصر.
جدير بالذكر أيضاً أن هناك نمطاً جديداً مختلفاً تماماً وأكثر تعقيداً عن الشكل التقليدي للمقاومة، والذي يتيح لأجهزة العدو الأمنية ونظيراتها الصديقة الكشف عن إعدادات لعملية قبل وقوعها، أو تعقب عناصر المقاومة من خلال جواسيسها وأجهزة استخباراتها، فنمط العمليات الفردية التي ينفذها أفراد ليست لهم أية روابط فكرية أو تنظيمية بجماعات، واتسامهم بالبعد عن السياسة وانخراطهم في المجتمع بشكل طبيعي ويتناسب مع أعمارهم واهتمامهم بالموضة وأشياء أخرى لا يمكن معها توقع أو تخيل إقدامهم على أعمال من هذا النوع، والنموذج على ذلك الشهيد البطل محمد صلاح، ومن قبله شهداء آخرون ارتقوا على أرض فلسطين في الأونة الأخيرة، لم يكن ليتوقع أحد قيامهم بعمليات كهذه، فهم يعيشون أسوة بأقرانهم منشغلين بالشهوات والملذات كما يتمنى لهم عدوهم.
سيناريو تقف أمامه أجهزة استخبارات العدو وأصدقائه عاجزة عن مواجهة مخاطر قادمة، ستكون نتائجها مؤلمة! فما السبيل إذاً لمعرفة ما يجول في خاطر من أُنفق على تجهيلهم وتشويههم ودفعهم نحو المخدرات المليارات؟
فيا محمد يا صلاح.. يا من أجاب بحي على الفلاح، ذلك هو جوابي على رسالتك التي كتبتها بدمائك التي سالت بشجاعة على سلاحك وفوق أرض فلسطين ضد شرذمة من الملاعين.
"فروح وريحان، ومنزلة الشهداء عن الرحمن، فلا عاش من أراد لبلادنا الهوان، ولا مات من دافع بدمائه عن الأوطان".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.