سيطر حادث قتل مجند بالأمن المركزي المصري لثلاثة جنود إسرائيليين وإصابة رابع، في هجوم معقد، بتاريخ 3 يونيو، على اهتمام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالأخص في ظل التعتيم من الجانب المصري على تفاصيل الحادث واسم الجندي ودوافعه، اكتفاءً ببيان للمتحدث العسكري المصري، أعلن خلاله أن الحادث وقع خلال مطاردة الجندي مجموعة من مهرّبي المخدرات على الحدود. فيما أدلى الجانب الإسرائيلي تباعاً بتفاصيل الهجوم، وصولاً إلى إعلانه اسم المجند، وهو محمد صلاح، وتسليم جثمانه للجانب المصري بعد يومين من وقع الهجوم.
التشويش على السياق الأوسع
قبل تناول تفاصيل الحادث ينبغي التوقف عند دلالاته الأوسع، فالمنطقة تشهد عمليات تطبيع متسارعة، تُوجت باتفاقيات إبراهيم بين الإمارات والبحرين والمغرب مع الجانب الإسرائيلي، وتحول التطبيع البارد الذي دشنته مصر منذ اتفاقية السلام عام 1979 إلى تطبيع ساخن، انتقل من الجانب السياسي ليشمل الجوانب العسكرية والأمنية والتجارية.
فخلال العام المنصرم تبادَل كبار المسؤولين الإسرائيليين والعرب الزيارات، كما وصل التطبيع مراحل غير مسبوقة، فعلى سبيل المثال أعلن وزير الداخلية الإماراتي توقيع مذكرة تفاهم للاعتراف بتراخيص القيادة الصادرة من كيان الاحتلال، دون الحاجة إلى إجراء اختبارات، فيما أعلن وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية مصادقة البلدين على اتفاقية للشراكة الاقتصادية الشاملة، فيما وقعت وزيرة الاقتصاد الإسرائيلية أورنا باربيفاي خلال زيارتها للرباط اتفاقية تعاون تهدف إلى رفع حجم التجارة السنوية الإسرائيلية مع المغرب إلى نصف مليار دولار.
وعلى الجانبين العسكري والأمني، وقّعت هيئة حظر غسل الأموال وتمويل الإرهاب بوزارة العدل الإسرائيلية مذكرة تفاهم مع هيئة الاستخبارات المالية في البحرين، لتبادل الخبرات والمعلومات الاستخبارية المالية. كما وقع وزير الدفاع آنذاك غانتس اتفاقية تعاون عسكري في مجالات الاستخبارات وشراء المعدات والتدريب مع البحرين، في أول اتفاقية لإسرائيل من نوعها مع دولة خليجية، والثانية مع دولة عربية بعد المغرب.
وفي مصر، انتقلت العلاقة مع إسرائيل إلى مربع الشراكة الاقتصادية، حيث اتفق الجانبان على زيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى 700 مليون دولار بحلول 2025 دون حساب حجم صادرات الغاز وإيرادات السياحة، كما أعلنت ثلاث شركات طيران إسرائيلية تسيير 3 رحلات جوية إلى مدينة شرم الشيخ أسبوعياً، مع إعفاء مصر للمسافرين الإسرائيليين من الحصول على تأشيرة دخول مسبقة.
فيما زار رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت مصر لمدة يومين متتالين للمرة الأولى، ثم شارك في قمة ثلاثية حضرها ولي عهد أبوظبي، وناقشوا خلالها فرص تمويل الإمارات لمشاريع تطوير البنية التحتية للغاز في مصر، والتي تُستخدم في تسييل وتصدير الغاز الإسرائيلي. كما انعقد منتدى النقب بحضور وزراء خارجية إسرائيل وأمريكا ومصر والإمارات والبحرين والمغرب، ضمن توجه لدمج إسرائيل في المنطقة بشكل طبيعي.
وسط سيل تلك اللقاءات والاتفاقيات ومذكرات التفاهم، جاء الحادث الأخير في سيناء ليمثل طعنة في خاصرة عملية التطبيع المحمومة، إذ ينتمي منفذه لأحد أجهزة الأمن بأقدم دولة عربية مطبعة مع تل أبيب، كما برز احتفاء شعبي واسع بالحادث، وهو ما يعيد للواجهة مجدداً الرفض المجتمعي لعمليات التطبيع، ويشوش على الخطاب العربي الرسمي الذي تجاوز مرحلة العداء ضد الاحتلال، وهنا تكمن أبرز رسائل الحادث.
قراءة في تفاصيل الحادث
أجرت مصر وإسرائيل مباحثات سلام برعاية أمريكية في مدينة كامب ديفيد في عام 1978، ثم وقّع الجانبان على اتفاق سلام في عام 1979، وبمقتضاه تتولى الشرطة المدنية المصرية المسلحة بأسلحة خفيفة تأمين المنطقة "ج"، الممتدة من رفح إلى طابا، على طول الحدود المصرية الإسرائيلية، مع التعهد بعدم نشر أي قوات عسكرية مصرية في تلك المنطقة إلا بتفاهمات خاصة بين البلدين.
وفي ظل البيئة الصحراوية الوعرة، والحدود البالغ طولها 277 كيلومتراً، فلم توجد قوات شرطية مناسبة لتلك المهمة سوى قوات الأمن المركزي، وهو ما يفسر سبب وجود مجند الأمن المركزي محمد صلاح، منفذ الهجوم الأخير، في المنطقة الحدودية. مع العلم بأنه تم تعديل بنود الاتفاقية الأمنية في عام 2021، وبمقتضى التعديل سُمح بزيادة عدد قوات حرس الحدود المصرية وتسليحها بالمنطقة الحدودية في رفح، وذلك لمواجهة عناصر تنظيم ولاية سيناء الناشطين بالمنطقة.
بحسب التحقيقات الإسرائيلية، فقد تحرك المجند محمد صلاح مسافة 5 كيلومترات من موقعه إلى السياج الحدودي، ثم قصَّ الأسلاك التي تغلق فتحة طوارئ سرية مخصصة لدخول القوات الإسرائيلية إلى داخل الأراضي المصرية، ثم عبر الحدود، وهاجم الساعة 6 صباحاً نقطة مراقبة عسكرية على بعد 150 متراً من السياج، يتواجد بها جندي ومجندة إسرائيليان، فقتلهما، ثم اختبأ حتى مجيء قوة دعم للبحث عن الجنديين إثر انقطاع الاتصال معهما، واشتبك مع تلك القوة الساعة 11 صباحاً، ليقتل جندياً ثالثاً ويصيب جندياً رابعاً قبل أن يُقتل.
أدى الهجوم إلى ارتباك في الجانب الإسرائيلي، في ظل غياب أي إنذارات استخبارية عن حدوث هجوم وشيك، وعدم رصد أجهزة الاستشعار المتطورة على طول السياج الحدودي حدوث عمليات تسلل، وهو ما انعكس على بطء استيعاب قيادات الاحتلال حدوث هجوم، فوصلت التعزيزات بعد خمس ساعات كاملة من مقتل أول جنديين.
رغم العلاقات الوطيدة بين حكومتي القاهرة وتل أبيب، فإن ربط مصر وقوع الحادث بمطاردة الجندي لمهرّبي مخدرات استفز الجانب الإسرائيلي، ما دفع عضو الكنيست داني دانون للقول: "تعقيب مصر حول الهجوم مخجل ووقح"، فيما قال نتنياهو عبر الإعلام: "لقد وجَّهت رسالةً واضحةً للحكومة المصرية بأننا نتوقع أن يكون التحقيق المشترك شاملاً لصالح البلدين".
يُمثل الحادث إزعاجاً للجانب الإسرائيلي، حيث وقع في جبهة هادئة، وجاء بعد شهور معدودة من تسلل شخص مسلح عبر الحدود مع لبنان إلى عمق 70 كم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل تنفيذه هجوماً في منطقة مجدو، دون أن ترصده الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو ما يعني وجود ثغرات خطيرة وقصور في تأمين الحدود، سواء مع مصر أو لبنان.
لا يتوقع أن يتحول الحادث إلى أزمة سياسية بين البلدين، في ظل العلاقات الوطيدة بينهما، والتي مكنتهما من تجاوز أزمة إسقاط الجيش الإسرائيلي، العام الماضي، طائرة مسيّرة مصرية تجاوزت الحدود بالخطأ، خلال مراقبتها لأنشطة عناصر تنظيم ولاية سيناء، فحينها قال وزير الدفاع الإسرائيلي غانتس: "إن العلاقات بين الأصدقاء تشهد تقلبات صعوداً وهبوطاً. آمل أن تنتهي الخلافات في الأيام القليلة المقبلة"، لكن ما يخشاه الجانبان هو استلهام جنود مصريين آخرين للحادث، والسعي لتكراره، وهو ما سيولّد أزمةً حقيقيةً آنذاك.
ولذا يتوقع أن تشدد إسرائيل إجراءاتها الأمنية على الحدود، كما يُرجح أن تطلب من الجانب المصري تشديد الفحص الأمني للجنود، وحظر وجود أي جنود ذوي توجهات قومية أو دينية على الحدود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.