بينما يخطُّ الكاتب هذه السُّطور، لمناقشة الحدث السَّاخن من زوايا قد تكون، بالنسبة البعض، جافَّة وتقنيَّة ومغرقة في التفاصيل؛ فإنَّ عموم المصريين، الَّذين سئموا الإحباط والخيبات، يتغنَّون، في مشهد مفتقَد خلال العقد الأخير، بميلاد بطل جديد، بطل شعبي حقيقي، بطل النَّاس، خلافاً للبطولات المزيَّفة المصنوعة على مقاس السُّلطة لأغراض يكون أنبلُها عادة، التشتيت والإلهاء.
امتشقَ سلاحه السوفييتيَّ العتيق، الذي عفا عليه الزمن، وقطع الأرض المقدسة، متجاوزاً واحدة من أخطر النقاط في العالم، حيث الجدار الأمني المشيد للحدِّ من خطر الأنفاق تحته، وكاميرات ونقاط المراقبة العاملة على مدار الساعة فوقه، وفي الجهة الأخرى أصدقاء على الورق، أعداء حقيقة، مدججين بأحدث العتاد وأكثره فتكاً، مشتبكاً معهم، موقعاً في صفوفهم 3 قتلى، قبل أن يلقى ربه، طواعية، برصاصاتٍ نالت شرف أن تسكن جسده.
فرد واحد، اسمه محمد صلاح (حسب الروايات الإعلامية المنتشرة في ظل صمت النظام المصري)، يلهب مشاعر أمة كاملة ويلهمها باليقظة لا بالتخذيل.. فكيف وصلنا إلى تلك النقطة؟
ثأر مؤجَّل
أدَّت الخرائط الحدودية، غير المنطقية في كثير من الأحيان، الّتي أرساها الاستعمار الغربي في العالم بعد الحربين الكونيتيْن، لا سيما الحرب العالمية الثانية، ونشأة كثير من الدول القومية الحديثة على أنقاض الإمبراطوريَّات القديمة، إلى ظهور نمط متكرر من الصراعات بين هذه الكيانات السياسية المستحدثة، والذي يبدأ عادة من الحدود ونقاط التماس.
الصراعات بين الكيانات السياسية المتجاورة على الموارد والثروات وترسيم مناطق النفوذ أقدم، بالطبع، من ملابسات تأسيس الدول القومية الحديثة على يد الاستعمار الغربي.
ولكنَّ اللوازم والملحقات والحمولة، الفكرية والقانونية والتقنية، بما في ذلك استخدام الأدوات الهندسية لترسيم الحدود، وظهور مصطلحات المجال الجوي والبحري، والطابع العشوائي لفلسفة كثير من الخطوط الفاصلة بين الكيانات السياسية القومية، تعود كلها إلى نفس المنبع: المستعمر الغربي الذي رسم الحد، وأعاد تعريف القومية، ووضع العلم، وأسس الدولة، وصولاً إلى وضع صياغات لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الصراعات والمناوشات على نحو لا يكاد ينقطع.
وبناءً عليه، صار لدينا بابٌ ثابت في العلوم السياسية عن منطق تسجيل النقاط بين البؤر القومية الملتهبة التي ظهرت بشكل متزامن تقريباً من الناحية التاريخية، على أنقاض إحدى الحربين العظميين، أو على أنقاضهما معاً، من أقصى شرق الكرة الأرضية وحتى أقصى الغرب.
لا يوجد كيانان سياسيان قوميان متجاوران تقريباً، إلا وبينهما صراعات حدودية، بسبب ظروف نشأة تلك الكيانات تاريخياً والترسيم المتداخل للحدود، عرقياً واقتصادياً وثقافياً، بما يتجاوز مجرد منطق التجاور، إلى الجزم بأنَّ النظام العالمي مؤسس بنيوياً على نحو يضمن ديمومة الصراع وتسجيل النقاط.
من الشرق إلى الغرب: الكوريتان، الهند وباكستان، أذربيجان وأرمينيا، كوسوفو وصربيا، وحتى الدول العربية نفسها، من الخليج إلى المحيط، وليس أدل على ذلك من المناوشات الدائمة بين المغرب والجزائر.
حدود، خلفها أطراف متحفزة، وثروات ومطامع متداخلة، كل حدث عنيف منها، يسقط فيه قتلى وجرحى يكون قادراً على اجترار متوالية ثأرية، تذكيها أدوات الحكم والإدارة القومية المؤسسة على سرديات الاستقلال والإعلام الرسمي، كما تكون نافذة للتدخلات الدولية. لماذا هذه المقدمة الفلسفية الطويلة؟
لأنه محفور في وجدان المصري، الشاب المعاصر، أنَّ الكيان الغريب عن نطاقه، لغة وديناً، الذي زرعه الاستعمار، بعد الحرب العالمية الثانية، تحت اسم "الدولة" عام 1948، على الحدود الشرقية، كان قد سجل "نقطة" تاريخية مهينة، رغم مزاعم السلام، حينما قتل طيرانه، بلا جريرة، صيف 2011، خمسة جنود نظاميين، بينهم ضابط، من قوات الأمن المركزي، المكلفة بملء الفراغ في تلك المنطقة، بعد ما رسخت اتفاقية السلام، لعقود، هندسةَ الجانب المصري، بما يشبه "المنطقة العازلة" لطمأنة "إسرائيل".
مثلت تلك الواقعة، حينها، ذروة الشعور بالمهانة القومية لدى المصريين، إذ لم يكفِ إسرائيل أن يكون جانب معتبر من الحدود، على الجانب المصري، شبه منزوع السيادة، وإنما قررت أن تستغل الظرف السياسي المضطرب وضعف التسليح والعتاد المفروض قسراً بقوة تفاهمات القانون الدولي لقتل الجنود.
كما استمرأت مؤخراً، عام 2022، عبر دوائرها الإعلامية جرح الشعور الوطني لدى المصريين، بالتصريح بأنّه لا يزال هناك مقبرة، بالقرب من القدس، تحوي جثامين جنود مصريين، دفنوا أحياء، خلال مشاركتهم في حرب يونيو/حزيران 1967، بما لا يقل أبداً عن 20 جندياً، دون أن تستطيع السلطة الحاكمة في مصر، رغم مرور نحو عام على الإعلان، أن تسترد هذا الرفات، ما فتح جرحاً عميقاً في نفس المصري، الذي لم يعد يعرف فقط بأن جده كان قد فقد في هزيمة مأساوية، وإنما دفن حياً في مكان معلوم لدى قاتله الذي يتبحح باستظهار تلك الحقيقة!
محمد صلاح.. بطل جديد؟
إزاء الاستفزازات الإسرائيلية والتساهل في الإيغال في الدماء المصرية تاريخياً بمنطق تسجيل النقاط، وتراخي الأنظمة السياسية غير المدعومة شعبياً في الحفاظ على كبرياء المصري، فقد تشكل فيما يبدو، نموذج الفدائي الأوحد، الذي يتحدى الظروف المحيطة، ويثأر لكرامة أمته، مضحياً بروحه، أو مقامراً بها في أفضل الظروف، إلى أن يمسي بطلاً في التاريخ الشعبي الحديث.
نذكر جميعاً واقعة قيام المجند، المثقف الرقيق، في صفوف قوات الأمن المركزي عام 1985، ابن الشرقية، سليمان خاطر، بالدفاع عن نطاق خدمته، مشتبكاً مع عناصر إسرائيلية تعدت على هذا النطاق، موقعاً في صفوفهم عدة قتلى.
وقد أبت السلطة حينها، نظام مبارك تحديداً، والذي كان حديث عهد نسبياً بالحكم، إلا أن تقدم أوراق اعتمادها لدى زريعة الاستعمار، ضاربة عرض الحائط بمشاعر المصريين، وذلك عن طريق تجريد خاطر من حقه الطبيعي في المحاكمة العادلة، وصولاً إلى التخلص منه بعد أشهر من الحادث، في قلب مكان احتجازه، المؤمَّن عسكرياً، لتكون الرسالة: إن إسرائيل، لا يكفيها الاعتذار والحكم بالمؤبد والوصم بالمرض النفسي رسمياً لخاطر والتعويض المادي الكبير لعائلات القتلى؛ وإنما تستطيع أيضاً أن تنتقم من خصمها في قلب وطنه وبين زملائه العسكريين!
ولكنَّ دماء خاطر لم تضع هدراً، إذ قام، ابن الشرقية أيضاً، أيمن حسن، الذي تأثر، وفقاً لروايته، بواقعة التخلُّص من خاطر بهذا الشكل المهين، فكانت واحدة من الدوافع التي حفزته، إلى جانب المثيرات اللحظية الخاصة بالاستفزاز المتعمد وتدنيس العلم المصري، حينها، بالاشتباك مع جنود العدو، في ملحمة بطولية، دون أيّ مبالغات، نتج عنها خسائر كبيرة للغاية، بالنظر إلى كون المنفذ شخصاً واحداً، في الأرواح والعتاد.
حوكم أيضاً أيمن، وانتهت حياته المهنية تماماً، وجرى التضييق عليه في سبل الرزق والعيش بعد خروجه من محبسه مطلع الألفية؛ ولكنَّ محمد صلاح، ابن الشرقية أيضاً للمفارقة، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على ملحمة أيمن، أرسى ملحمته الخاصة، في الشجاعة والتفرُّد والسباحة ضد التيار، واضعاً نفسه وعائلته في قوائم الشرف التي سيخلدها التاريخ الشعبي، تاريخ المصريين الحقيقي، فأمه صارت أمَّ البطل، وكل عائلته قد اكتسبت تعريفاً مشرفاً بالانتساب إليه.
دلالات الحضور النسائي
تقول الرواية الرسمية الإسرائيلية إنه من بين القتلى الثلاثة الذين أوقعهم الجندي المصري، محمد صلاح، خلال رحلته إلى الأراضي المحتلة، فتاة إسرائيلية شابة، تخدم في الجيش الإسرائيلي، ما يطرح أسئلة كثيرة، تحتاج إلى إجابة، خاصة بالنسبة للقارئ غير المتخصص، الذي وجد نفسه، فجأة، أمام معجم ومفردات الحالة الإسرائيلية.
في حقيقة الأمر، يستغل قادة المؤسسة العسكرية في إسرائيل العنصر النسائيَّ وحضوره لتحقيق عدة أهداف، على رأسها:
1) سدّ الفجوة البشرية بين إسرائيل، الصغيرة عدداً، وبين خصومها على الجبهات المختلفة، ففي وسط معادٍ، كما يراه الإسرائيليون، وجغرافيا شديدة التواضع أمنياً، تحتاج إسرائيل من كل عنصر بشري لديها، أن يكون على أتمِّ الاستعداد للانخراط في عملية التعبئة العامة، تحسباً للهاجس المروِّع: حرب شاملة مفتوحة ضد جيرانها تهدد فكرة وجود الدولة.
2) دعائياً، تحب إسرائيل أن تقدم نفسها في محيطها الإقليمي في كثير من الملفات بالمظهر الليبرالي التقدمي؛ فالجيش الإسرائيلي، في الدعاية الرسمية له، دوناً عن كل مؤسسات الحرب المجاورة، يضم عرباً ودروزاً ومسلمين ومسيحيين ويهوداً، ذكوراً وإناثاً، وأكثر من ذلك!
3) وتتعمَّد مؤسسة الجيش هناك أن تصدر إلى الإعلام خبر زيادة أعداد المجندات الإناث على الحدود المصرية كل فترة، للإيحاء بأنها حدود مستقرة سهلة، لا تحتاج ربما إلى ما هو أكثر من ذلك، وفي هذا السياق، عكف الاحتلال على ترجمة ذلك التوجه بتوسيع أدوار المجندات على الحدود مع مصر، لتشمل مهام كانت محظورة عليهن مثل العمل في سلاح المدرعات.
4) وبما لا يخفى على أحد، فإن إسرائيل تتعمد أيضاً الزج بالعنصر النسائي على تخوم بعض الحدود العربية، للاضطلاع بمهمات إغواء ذات أهداف أمنية، أو استفزازات إذا تطلب الأمر، وقد اشتهرت في الثمانينيات واقعة نجاح إسرائيلية في التسلل إلى مقر أمني حساس تابع لقوات الأمن المركزي باستخدام إمكاناتها الغوائيَّة مع أحد الجنود المصريين، وهي الواقعة التي أشار إليها سليمان خاطر ضمناً في التحقيقات معه، وفي مايو 2021 انتشر فيديو مخزٍ لفتيات إسرائيليات يرقصن عبر السياج الحدودي مع الجنود المصريين الموجودين في الجانب الآخر.
الجندي المعاق
الخبر السيئ هنا، لإسرائيل بالطبع، أنَّ أياً من المقتولين الثلاثة، لم يشتبك مع الجندي المصري، محمد صلاح، مباشرة، وإنما قُتل الجندي لاحقاً على يد قوات الدعم، التي تحركت سريعاً إلى نطاق مسرح العمليات، ضمن بروتوكولات التعامل مع الطوارئ الحدودية.
يعود ذلك، في جانب معتبر منه، إلى حسن الإعداد الذي قام به الجندي المصري، محمد صلاح، ولكنَّ جانباً منه أيضاً قد يرجع، كما تقول مؤشرات كثيرة، إلى تفصيلة شديدة الحساسية لدى الجانب الإسرائيلي، وهي ما تترجم عربياً إلى "تراجع الدافعية القتالية" لدى الجندي.
التركيز على التكنولوجيا والتحصين في نظرية الأمن القومي الإسرائيلية، واستعارة نظرية الأجيال في علم الاجتماع الخلدوني مطبقة على الحالة الإسرائيلية، في إشارة إلى أنَّ الأجيال الجديدة لا تتحلى برباطة الجأش التي كان يتحلى بها الآباء المؤسسون ومقاتلو حروب العصابات في النكبة الأولى؛ كلها تفسيرات مطروحة من خبراء الاحتلال والمراقبين الفلسطينيين في هذا الصدد.
غير أنَّ من اللافت كان ما طرحه يوآڤ شاروني الباحث الأمني الإسرائيلي عام 2014 على خلفية وقائع هروب جنود إسرائيليين من الاشتباك المباشر، من نقطة صفر، مع عناصر حماس، في حرب "العصف المأكول" (الجرف الصامد) بشكل مخز، وهو أن استبطان الرغبة في تكوين جيش مناسب للدعاية الليبرالية الغربية بالتنوع، العرقي والجندري، ومزاحمة هذا التوجه لمعيار اختيار المقاتل العقائدي الكفء؛ ساعد في إخراج هذه المشاهد الهزيلة للجنود الذين يصرخون بمجرد مواجهة جنود غزة.
كما وثق الإعلام العبري، في تحقيقات ما بعد الإفراج عن جلعاد شاليط، الجندي المأسور في عملية الوهم المتبدد 2006، اعترافه للمحققين الإسرائيليين بأن نوبة الهلع التي ضربته حال الإحساس بالخطر حينها، أدت إلى عدم استخدامه للسلاح واستسلامه للأسر سريعاً، رغم أن معظم معطيات الميدان كانت تصب في صالحه!
من هنا، صار البحث في "تراجع الدافعية القتالية" لدى الجندي الإسرائيلي موضوعاً شائكاً لدى مؤسسات الحرب هناك، حيث تبدأ المتوالية بمحاولة الفرار من التجنيد، وإذا لم يستطع العنصر الفرار فإنه يقدم أداء هزيلاً في الميدان، وكثيراً ما يلجأ إلى الانتحار أثناء أو بعد الاشتباكات التلاحميَّة المحملة برائحة الموت، وهو ما يبدو أنه كان حاضراً في مباغتة المصري لنظرائه الإسرائيليين.
كابوس إسرائيل
المخاوف الأمنية للاحتلال كثيرة ومعقدة، سواء أكان ذلك على المستوى الاستراتيجي أو على المستوى التكتيكي. ويدخل أداء العسكري المصري في تلك الحادثة ضمن الكوابيس الميدانية المروعة للاحتلال، ليس على مستوى الخسائر البشرية الواقعة جراء تلك المغامرة فقط، وإنما في تخيل أيضاً احتمال تضخم هذا النوع من العمليات: عمليات التسلل والاشتباك.
فبينما يحقق الصاروخ والمقذوف المضاد للدروع والهاون والقناصة أغراضاً عسكرية للمقاومين ضدها خلال مسافات ليست بالقصيرة بقدر قليل من المخاطرة البشرية من طرف المنفذ، إلا أن إسرائيل بدأت ترى أن تلك العمليات قد تكون أهون بعض الشيء من عمليات التسلل العابر للحدود.
حتى نستوعب المعادلة، فإن إسرائيل ترى أن طبقات الدفاع الجوي والإنذار المبكر والاستطلاع والملاجئ قد تقلص من خطورة التهديدات النيرانيَّة التي لا تتضمن مواجهات مباشرة على الأرض بين عناصرها وعناصر خصومها، أما عمليات التسلل، فرغم الاحتمالات الكبيرة لتصفية المنفذين، كما حدث مع محمد صلاح، فإنها تتضمن مخاطر نوعية شديدة، من جهة كشف هشاشة العنصر البشري العامل لديها قتالياً، إضافة إلى قدرة المنفذين، حال كونهم مجموعة، على كسب الأرض.
فبعض المستوطنات المأهولة بالسكان تحاذي حدود إسرائيل مع جيرانها مباشرة، مما يجعل هذه "الكيبوتسات" القريبة من نقاط التماس وسكانها عرضة لمخاطر الأسْر أو الاستحواذ الواسع على الأراضي وطرد مستوطنيها ولو مؤقتاً بما يفتح الباب أمام حلم التحرير.
تضخمت تلك المخاوف كثيراً بعد حرب يوليو/تموز 2014 ضد حماس، وقيام عناصر الأخيرة بالتسلل، عبر الأنفاق، جماعات، إلى الكيبوتسات المأهولة، واشتباكهم، من نقطة صفر، مع عناصر جيش الاحتلال، ثم تبني حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، لاحقاً، التهديد الجاد بإمكان تحرير بعض مستوطنات الجليل الأعلى شمالاً في أي حرب قادمة، والتدريب الجاد المعلن على ذلك.
هنا لا بد أن نتذكر وقائع مثل تسلل مواطن لبناني غير مسلح صيف 2022 الماضي، مشياً على الأقدام، إلى الداخل المحتل، وصولاً إلى مستوطنة "مسكاف عام"، بل ودخول مقر عسكري حساس، كان خالياً حينها، حتى اعتقله جيش الاحتلال.
أما عن الجندي المصري محمد صلاح، فلولا أن المؤشرات الأولية لتكوينه الاجتماعي والثقافي عن شخصيته تبدو بسيطة، لكان من المنطقي القول إن على عمليته بصمات أحد التنظيمات الإقليمية التي تهدد إسرائيل بهذا النمط من العمليات، بل كان من الممكن، في ضوء معطيات الميدان، أن يقوم بعملية أسر لجثمان أحد المقتولين، ولكن من حسن حظ الاحتلال، ربما، هذه المرة، أن المنفذ مصري وليس فلسطينياً أو لبنانياً.
النظام المصري في مأزق
كعادتها في التوسُّع في الرد على مصادر التهديد، قالت وسائل إعلام عبرية إنّ رد الجيش الإسرائيلي قد امتدَّ إلى داخل الأراضي المصرية، وهو ما يعيد إلى الواجهة الملف شديد الحساسية الخاص بالتجاوزات الإسرائيلية في سيناء المصرية، والتعامل معها، بتنسيق مع الطرف المصري تارة أو سراً دون تنسيق، كما تتعامل مع المجال الجوي للجنوب اللبناني والجولان المحتل.. استباحة وانتهاكاً!
قد تستغل إسرائيل هذه الحادثة، والإعلانَ المصري الرسمي عن القضاء التام على بؤر التمرد الإسلامي القبلي في سيناء، إلى طرح ضرورة تفكيك الوجود العسكري المتاخم لخط الحدود الدولية، والذي كانت قد سمحت به في الأعوام الأخيرة، من مقرات عسكرية وعتاد نوعي وأعداد قوات أكثر مما يسمح به الملحق الأمني لاتفاقية السلام، حتى بعض تحديثه نوفمبر 2021، خاصة بعد تعهد وزير الدفاع المصري لنظيره الإسرائيلي باتخاذ ما يلزم لتجنب مثل هذه الحوادث مستقبلاً.
تعيد الواقعة جهود السيسي الشخصية في إعادة تعريف إسرائيل باعتبارها عدو الماضي الذي لم يعد عدواً، وفي إعادة تعريف الدور الجديد للجيش المصري في عهده باعتباره مؤسسة تهدف إلى مكافحة الإرهاب، إلى الصفر. إذ يبدو أنّ هناك عناصر عسكرية لا تزال ترى في إسرائيل عدواً، كما أن التفاعل الشعبي ابتهاجاً بنتائج الواقعة، يبدد كثيراً من الجهود التي بذلت لتبييض صورة المحتل شعبياً.
أخيراً وهو أمر لا يقل أهمية عما سبق، فإنَّ التمرد العسكري الفردي على التوجهات العامة الواضحة للسلطة في ملف حساس مثل الحدود والعلاقة مع إسرائيل، لا شك أنه سيثير مخاوف مؤسسة الحكم في مصر من خطورة مد هذا الجموح والتهور على استقامته، بالنظر إلى الماضي غير البعيد الذي شهد انتهاء حقبة رئاسية وتدشين أخرى بمغامرات مشابهة أكتوبر 1981، لا سيما في ظل الاحتقان الشعبي المزمن وانسداد السياسة وتدهور مكانة البلاد خلال الـ 10 أعوام الأخيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.