أن يترك لاعبٌ ما منتخب بلاده، مستغلّاً فرصة التجمُّع في الخارج، ليذهب إلى بلد آخر، عابراً البحر، بحثاً عن فرصة أفضل في مجاله، أو لهوى ما في نفسه؛ فهذا أمرٌ، مع عدم ارتياح النفس له، إلا أنَّه مستساغ، لا سيما في البلدان الفقيرة، الّتي ترى المواهب الصاعدة فيها صعوبةً في التّألُّق واللمعان، قياساً على بلدان الشمال الغربي المتقدم، حيث الفرص والمال والوفرة والدعم.
ذلك شأن الرياضي، أو الموهوب، أياً كان مجال وحقل نبوغه؛ أما ردة الفعل المقابلة، من أهله وبني جلدته، فغالباً ما تتراوح بين التقريع لمن باع البلد بالرخيص، بالنسبة للأشخاص المفعمين بالحساسية والكائنين ناحية اليمين القومي، أو بالحسرة والحزن، من أرباب المدرسة الواقعية، الذين يرون أن الوطن أفلت موهبة فذة من يده، ستخدم مجتمعاً آخر، بدلاً من المجتمع الذي تربى صاحبها فيه.
الجديد واللافت والمحيّر في تفاعل المصريين مع خبر مغادرة لاعب المصارعة الرومانية الحائز على فضية بطولة إفريقيا للشباب في تونس، أحمد بغدودة، الأسبوع الأخير من مايو/أيار الماضي، معسكر بلاده إلى فرنسا دون إخطار زملائه أو أسرته، أنَّ نسبةً غير بسيطة منهم، على منصَّات الإعلام البديل، تلقَّت النبأ بحفاوة ومباركة، لا تخطئهما عين، كما لو كان اللاعب قد نجح في الفرار من الأسر! فكيف يفكر المصريون؟
سوابق مشابهة
اللافت أيضاً أنَّ هذه ليست المرة الأولى الّتي تتخذ فيها ردَّاتُ فعل المصريين نمطاً مشابهاً، من حيث اختيار الوقوف في الجانب الذي قد يصعب على أيِّ طرفٍ خارج المعادلة المصرية فهمُه، فقد سبق أن:
1- أبدى المصريون ارتياحاً مشابهاً لخسارة الفريق القومي لكرة القدم في بطولة إفريقيا للكبار، التي كانت تنظمها مصر عام 2019، والتي اشتهرت بالكلمة الافتتاحية الّتي اضطرب فيها صوت السيسي في ستاد القاهرة، بعد أن كانت تلك البطولة، على وجه التحديد، ملتقى للترفيه والتعبئة الوطنية لعموم المصريين، في حقبة ليست ببعيدة.
2- بنفس الشعور تقريباً، شعور الارتياح الذي يتعارض ظاهراً مع لوازم النتائج الرقمية، تلقت شريحة معتبرة من المصريين خبر إخفاق المنتخب الوطني لكرة القدم في التأهل لنهائيات كأس العالم قطر 2022، على يد السنغال في المواجهة الفاصلة، إلى درجة أنَّ بعض المتابعين استخدموا صور "ساديو مانيه" وألوان أعلام المنتخب السنغالي في تفاعلات ما بعد الإخفاق، حمداً لله على عدم التأهُّل، أو بالأحرى حمداً له على تجنيبهم شلال الوطنية المزيف حال التأهُّل.
3- وفي حدث مشابه لواقعة بغدودة، قبل عام تقريباً، مايو/أيار 2022، كان مئات المصريين، على منصات الإعلام الموازي، يباركون للرياضي البازغ عالمياً في مجال الإسكواش محمد الشوربجي اختياره اللعب بقميص المنتخب الإنجليزي بعد أعوام طويلة من تمثيل بلده الأمِّ مصر، في موقف ربما لم يسبق له مثيل تاريخياً. فهل صار المصريون غير مصريين، أم أنَّ هناك أسباباً مطمورة تدفعهم قسراً إلى تلك الاختيارات؟ ما سرُّ هذا الإحباط في العشرية الأخيرة؟!
تحيا مصر.. الوطنية الآثمة
ما يبدو من هذه المواقف التي وقعت يقيناً، أنَّ المصري العادي، البسيط الذي يقضي معظم يومه في العمل، وعلى الهامش يتصفح مواقع التواصل ويتفاعل من خلالها مع العالم، صار لديه حساسية شديدة للغاية من خطاب الوطنيَّة الذي تتبناه السلطة في العشريَّة الأخيرة، أو بلغة مواقع التواصل، صار المصري يتحسس مسدسه كلما اشتمَّ رائحة التشدق بالوطنية.
فباسم الوطنية، وبتعريف السلطة الحالية لها، واحتكارها صك توزيعها، وعلى مذبحها، وبالابتزاز بها، رأى المصريون، في 10 أعوام ما يشيب له الولدان، دون أيِّ مجازات هنا، من سياسات إفقار، واحتكار للحكم والثروة، وبيع مقدرات الوطن وكنوزه التي لا تقدر بثمن في سوق النخاسة، ما جعله يتساءل: إذا كانت تلك هي الوطنية، فما معنى الخيانة إذاً؟
رأى المصري، باسم شعار "تحيا مصر"، عُملته، التي تُعد إحدى رموز الوطنية بمفهومها الحديث تنحطُّ إلى ما دون التراب، ورأى باسم الوطنية عائلات ومؤسسات بعينها تتربَّح من فقره، وتبني قصوراً على أنقاض منازله المهدمة. ورأى قطعةً من أرضه ارتوت بدماء طاهرة من أجل تحريرها في ماض قريب تباع بحفنةٍ من الدولارات، أو الريالات بمعنى أدق. تجرَّع المصري باسم الوطنية معنى الاستباحة الفردية والعموميَّة، للجسد والمكان، ما جعله يشمئزُّ وينفر من أي ابتزاز جديد باسمها.
في مشهد دالٍّ مكثَّفٍ يليق بتلك الحقبة التعيسة، فقد رأى المصريُّون، على شاشات التلفزيون الرسمي الذي يدفعون فاتورة تشغيله من ضرائبهم، أعضاء البرلمان، الذي يفترض أنهم نواب عنهم أمام السلطة، يتسابقون، للتصويت، بالإجماع، علناً، على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي قدمتها السلطة التنفيذية، متضمنة التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير إلى حاكم السعودية الجديد، عام 2017.
هذا رآه المصريون عياناً بياناً يحدث باسم الوطنية، حتى ترسخ في وجدانهم أنَّ حياة الوطن المزعومة صارت تعادل وتعني مباشرةً إذلالهم وإفقارهم واستباحتهم!
من السياسة إلى الرياضة..
في رائعة "الإرهاب والكباب" لوحيد حامد مشهد أيقوني يقول فيه المجند البسيط الذي كان يلعب دوره أشرف عبد الباقي، معلناً انحيازه لصفِّ الصعاليك المحتمين بمجمع التحرير، في مواجهة السلطة وجيوشها المستعدّة للاقتحام من الخارج، أنَّه اختار تلك المواجهة، الخاسرة حتماً، لا لشيء إلا لأنه ترسخ في وجدانه، بفعل تراكمات الإهانة، أنه بات مستعداً لفعل أي شيء، مهما كان خطيراً أو لا عقلاني، لمجرد أن "يعكنن على سيادة الباشا اللواء"، مجازاً مرسلاً عن السلطة التي لا تعبر عنه، والأسوأ من ذلك أنها تأكل قوته وتستبيحه، بل تدَّعي لنفسها، بعد كل ذلك، احتكار الوطنية.
في واقعة بغدودة، وما يدخل في تصنيفها، يبدو أنَّ تلك المقولة الواردة على لسان المجند في الفيلم، أشرف عبد الباقي، صارت لسان حال معظم المصريين.
فإذا كانت الرياضة، بدورها، تحولت إلى أداة ابتزاز وطني، شأنها في ذلك شأن كل الملفات؛ فإنَّ المصريين البسطاء، سينحازون تلقائياً إلى الجهة المقابلة من موقف السلطة، كي لا يصطفّون معها في نفس الخندق.
فالمعادلة الَّتي تقدمها السلطة الحالية عن الممكن في سقف الرياضة المصرية، أنَّه لو تبقى من ميزانية الدولة الموجهة كلياً إلى مؤسسات الرئاسة والجيش والشرطة والإعلام شيء للرياضة، فإنَّ الإنشاءات ستكون أولى به من الإنسان، وإن كان لا بدّ من الإنفاق على الإنسان، فليكن هذا الإنسان من أبناء النخب، في الرياضات المحظيَّة.
أما الإنسان في الرياضات التي لا فائدة تعبويَّة مرجوة منها، فليحمد ربه إن وجد الفتات. فهذا منتهى الدعم الممكن، وإن تمكن هذا الإنسان المسكين من تحقيق إنجاز دولي معتبر، بعرقه وموهبته، فليقبل أن يُنسب هذا الإنجاز، في سياق الابتزاز بالوطنية، إلى طابور طويل من المسؤولين، المسؤولين حقيقة عن أي شيء بعيداً عن إنجازه، أوله رئيس الجمهورية، وآخره عند أصغر مسؤول رياضي في القرية التي ينحدر منها صاحب الإنجاز.
على ما يبدو، فقد كسر بغدودة، بخُطوته تلك، الدائرة المغلقة، دائرة الذلِّ والابتزاز، فاللاعب، على المستوى الشخصي، كان متفرغاً لرفع علم بلده وتحقيق إنجاز له ولها، ولكنه تفرُّغ دون رعاية من جهةٍ أكبر، فإذا أراد أن يشتري حذاءً رياضياً للتدريب، فعليه شراؤه من ماله الخاص، إذا كان له دخل، أو استعارته من زميل ميسور، وليذهب كبرياؤه إلى الجحيم، وإلا فليفسح المكان لغيره من القادرين. فالموهبة وحدها، في ظل سياسات الإفقار المتعمد والابتزاز بالوطنية، لن تكون كافية للحصول على الدعم. فلا بدّ أن يكون لك ظهير!
بالطبع، رفضت السلطة وإعلامها قرار التمرد، وهي التي كانت تقطع الطريق عليه ابتداءً باحتجاز وثائق سفر اللاعبين المساكين خوفاً من أي حركة غير محسوبة، فشنَّعت عليه، وألمحت إلى استئصاله كلياً من لائحة الوطنيين، فاللاعب البطل سابقاً، صار هارباً وخائناً ومتمرداً على فردوس بلده البسيط، وبدأت حملة مطاردته قانونياً في الخارج، حتى يكون عبرةً لأيّ زميل يوسوس له عقله إمكان التمرد مستقبلاً.
ولكنَّ رد فعل العموم، حتى وإن لم يكن راضياً عن سلوك بغدودة حقيقة، أو في النفس شيء منه على الأقلّ؛ إلا أنه رفض الامتثال لمزيد من المتاجرة بالوطنية، معضداً موقف اللاعب ووالده، الذي كان يدافع، وحيداً، ببسالة لافتة عن نجله، ضد الابتزاز بالوطنية من أبواق الإعلام المنتفعة من استمرار ذلك الوضع الرديء.
المصري مقاوماً للسلطة..
لكلّ فعل رد فعل، هكذا تقول أوليات الفيزياء وخبرات الحياة. تنتهج السلطة في العشرية الأخيرة سياسات عامة، بأكثر وصف مهذب ممكن، حمقاء تكرس للاستباحة العامة واللاعقلانية، إلى درجة النبش في المقابر التاريخية، لإحلالها بكافيهات ومقاهٍ، فيحاول المجتمع، عفوياً، المقاومة السلمية، قدر استطاعته.
فعندما تدعوه السلطة، فلكلورياً، كلَّ عدة أعوام، لتجميلها، مستخدمة معه كل وسائل الترغيب والترهيب، كي يحضر انتخابات ما، فيحافظ على الشكل العقلاني العام للبلاد أمام الخارج؛ فإنهم، المصريين، تعلموا، أنَّ أكثر ما يؤلم السلطة، موسمياً في هذا الظرف الحساس، وأفضل ما يمكن فعله، بأقل قدر من الكلفة العامة، يكون، ببساطة، تجاهل الدعوة، وعدم الاستجابة إلى مهاترات النزول واختيار أيِّ مرشح، فتحترق أبواق الإعلام الرسمي كمداً، من مشاهد اللجان الخاوية، ويشعر العموم بالرضا لحظيّاً؛ لأنهم أوجعوا السلطة التي لا تحترمهم، تماماً كما حدث في فضيحة رئاسيَّات 2014 – 2018.
تدعو السلطة إلى هبَّة تعبوية وطنية لتوفير سيولة تمويلية عاجلة عبر مبادرات اقتصادية موجهة إلى العاملين خارج البلاد، بعد تبديد عشرات المليارات من الدولارات في المشاريع غير المدروسة؛ فلا تستجيب إلا أعداد قليلة، أقل كثيراً من المتوقع والمنشود، رغم المزايا الظاهرية في تلك المبادرات، فيما يصعب تفسيره بغير أنه، إلى جانب انفصام العلاقة بين السلطة وعموم المصريين، سلوك عقابي يستهدف تأديب السلطة على تجاوزاتها في حق المجتمع.
تشتري السلطة قطارات جديدة شكلاً، رديئة حقيقة، في صفقات ملياريّة مشبوهة من الخارج، فيرشقها الفلاحون بالحجارة، ما يجعل المسؤول يتساءل ببجاحة: لماذا يفعل المواطن ذلك؟ والإجابة محذوفة وجوباً؛ لأن الوزير لا يريد أن يسمعها، وهي أن المواطن، دافع الضرائب، لا يشعر أنَّ مجمل السياسات العامة، بما في ذلك ملابسات شراء القطار، تهدف إلى مصلحته، ومع التغوُّل في الإهانة والجباية والابتزاز، يتصرف المواطن عفويّاً لحفظ كبريائه.
وقد لوحظ أيضاً، في الفترة الأخيرة، تنامي حوادث، بعضها جديد كلياً على المجتمع المصري، مثل تكسير رادارات مراقبة الطرق فائقة التكنولوجيا التي استوردتها الشرطة من الخارج، لما يهدف ظاهراً أنه إحكام للحالة المرورية، بينما تشي كل الشواهد بأنها ماكينات مسعورة لجباية الأموال من مستخدمي الطرق، تماماً مثل الكارتات ورسوم التراخيص الهائلة. نفس الأمر في سرقة التيار، ووصل السخط الشعبي إلى حد رفض بعض المناطق التعامل بالورقة النقدية الجديدة، من فئة 10 جنيهات، التي أصدرتها الحكومة مؤخراً، كما سجل مراقبون مقربون من السلطة.
بالنظر إلى تلك المعطيات، قد يمكن تفسير سلوك المصريين الكيدي في وجه السلطة في حالة مثل حالة هروب لاعب موهوب إلى الخارج، في ظل الشعور العام بالغبن والإهانة والابتزاز المستمر بالوطنية، وأختم هنا بما وثقه الباحث الفذ في علم الاجتماع السياسي والمهتم بأسئلة الوطنية والتحديث في مصر، محمد نعيم، عن سلوك المصري القديم المشابه في وجه السلطة، حينما كانت تستنزف جهوده في موسم الزراعة، دون أي تقدير معنوي أو مادي، بالعكس، كانت تتعمد استباحته، فما كان منه إلا أن يحرق المحصول الذي زرعه بيده في موسم الحصاد، كنوعٍ من الثأر الممكن للكرامة حينها!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.