اعتمد الملك الزنكي العادل نور الدين محمود في دولته الحلولَ العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشكلات والأحداث، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب. ففي عام 552هـ شهدت الجهات الوسطى والشمالية من بلاد الشام زلازل عنيفةً ، تتابعت ضرباتها القاسية، فخرَّبت الكثير من القرى والمدن، وأهلكت حشداً لا يُحصى من الناس، وتهدّمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من نور الدين إلاَّ أن شمَّر عن ساعد الجدِّ، وبذل جهوداً عظيمةً في إعادة إعمار ما تهدّم وتعزيز دفاعاته. فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منَّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر، وحفظ البلاد؛ لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار.
وفي عام 565هـ ضُرِبَتْ بلدان المنطقة بغارة أخرى من الزلازل، لم تقلَّ هولاً عن سابقتها، خرَّبت الكثير من المدن، وهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحدِّ، والإحصاء، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك، لإعادة إعمار ما تهدَّم من أسوارها وقلعتها، ولم يجأر إلى الله بالشكوى ويعلن أن الظلم قد فشا، وأن هذا عقاب الله فقط، أو أنه إشارات الساعة قد لاحت في الأفق القريب، وعندما وصل بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد، وهلاك كثير من أهليها، فرتَّب في بعلبك من يحميها ويعمرها، وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك، ومنها إلى حماة، فبعرين.
وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، لا سيما قلعة بعرين، فإنها مع قربها منهم لم يبقَ من سورها شيء ألبتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلازل بها، وبأهلها؛ أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد، وجوامعها، وأخرج من المال ما لا يقدَّر قدره. (نور الدين محمود الرجل والتجربة)
إنَّ الكوارث ـ التي يبتلي الله بها عباده ـ تأتي بمثابة تحديات دائمة، تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى مزيد من الوعي والإنجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات خطوات إلى الأمام. والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها، ويصيبها بالعجز والشلل والجمود، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة، وواصل الطريق.
ثمة واقعة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال؛ كانت في الموصل خرابة واسعة في وسط البلد أشيع عنها: أنه ما شرع أحدٌ في عمارتها إلاَّ من ذهب عمره؛ ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة، وشيوخها الورعين بابتياعها، وبناء جامع كبير فيها، تقام فيه الصلوات، وتخطب الجمع، وتدرس العلوم، ففعل نور الدين، وأنفق فيه أموالاً كثيرةً.
وعلَّق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب "نور الدين محمود الرجل والتجربة" على هذه الحادثة، فقال: "لم يضرب نور الدين الخرافة، والشائعة بالكلمة ، ولكنه ضربها بالفعل، وبالإنجاز، وزالت الخرافة"، ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظلَّ حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين والدارسين.
إنَّ شعور نور الدين الزنكي بالمسؤولية، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وخوفه من محاسبة الله له، وشدَّة إيمانه بالله وباليوم الآخر؛ كانت أسباباً في التوازن المدهش والخلاب في شخصيته، والذي جعل حضور الشخصية القيادية حاضرة في كل متطلبات الدّور الذي كان يقوم فيه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.