بالأمس تعثرت بمنشور على "فيسبوك" يذكر جيل التسعينيات أن عشرين عاماً مضت على إطلاق فيلم "نيمو"، أي عشرين عاماً مرت على بداية صداقتي بـ"خالدة"!
"خالدة" جارتنا الأفغانية، الصبية شديدة الجمال، التي طرقت بابنا لأول مرة بعد تعارف عابر لتُعيرني مبتسمةً دون أن يتحرك لسانها بكلمة واحدة أسطوانتيّ كمبيوتر CD كتب على أولاهما "نيمو ١" وعلى الثانية "نيمو ٢"، ما زلت أذكر المشهد الذي تنتهي عنده الأسطوانة الأولى وتبدأ منه الثانية، مشهد "مرهف" متشبث بظهر أحد السلاحف البحرية في رحلة هجرتها التي قرر صحبتهم فيها للبحث عن ابنه "نيمو"، وما زلت أذكر أيضاً سعادتي الغامرة بهذه الهدية المُعارة وكيف أصبح هذا الفيلم أنيسَ أيامِ غربتي الأُوَل.
كان منزل "خالدة" يعلو منزلنا بطابقين، تمر عليّ في طريقها إلى دار تحفيظ القرآن ، وأمشي برفقتها ممسكة يدها كأختها الصغيرة، لنفترق عند باب التحفيظ كلٌ إلى مجموعته؛ لأنها تكبرني بسبع سنوات، هي في مجموعة الصبايا وأنا في مجموعة الأطفال، ثم أخرج ساعة الانصراف لأجدها بانتظاري عند الباب.
تسألني كل يوم بالإشارة إلى متجر المجمع السكني التابع للمستشفى التي يعمل بها أبي وأختها الكبرى إن كنت أريد شراء بعض الحلوى، فأخبرها أحياناً أن لا وأحياناً نعم فتصحبني إليه ولو لم تقتنِ لنفسها شيئاً.
أذكر ملامحها جيداً، كان جمالها غريباً ومميزاً، وفي المقابل لا أذكر كم مرة تحديداً أشاد أبي بصداقتنا لما توقعه من نفعٍ قد تجلبه إلى لغتي الإنجليزية، ولكني لم أخبره قبلاً أن "خالدة" لم تكن تتقن لا الإنجليزية ولا العربية، وأننا لم نكن نفهم بعضنا مطلقاً في البداية، نسير في صمت تام ويدانا متشابكتان.
كلامها كان قليلاً -أو قل نادراً- حتى بعدما مرت سنون أتقنتْ خلالها "خالدة" العربية بلهجتها السعودية، وتقدمتُ أنا في الإنجليزية، نذهب سوياً يومياً إلى دروس القرآن دونما كلمة؛ حتى إن المار بجوارنا ربما يظننا متخاصمتين قبل أن يلمح طرفُه تشابكَ أيادينا.
ولكن طريق العودة تبدل تماماً؛ خاصة بعد أن استقر فيه متجر صغير مخصص لبيع البطاطا الساخنة الحارة، نبتاع البطاطا وتقصّ خالدة عليّ نشاطات مجموعة الصبايا أمثالها؛ ممن ينسجون أساور الصداقة، وممن تمتلك كتاباً يضم كافة فنون صنعها المختلفة، ثم تريني ما تمتلئ به حقيبتها من كرات خيوط بألوان مدهشة وتقول لي سأنسج واحدة لأجلك، وأنا أسمع وكلي انبهار بحياة الصبايا تلك ويملؤني تطلعٌ إليها!
أشكو إليها أحياناً عنصرية البعض تجاه مصريتي، فتقول: "ليس مصريتك وإنما أجنبيتك يا بنتي، شكلنا مختلف، لهجاتنا مختلفة" ثم تستطرد بعد أن تشير إلى رأسي "عقولنا مختلفة" بعربيتها المميزة؛ فنضحك ونتفق في ضجرنا من الممارسات العنصرية الدائمة ضد كلينا ويُمحو هذا في نفس اللحظة أثرها في نفوسنا إلى الأبد.
اسألها إن زرتُ أفغانستان يوماً ما هل سيعاملني أهلها بعنصرية أيضاً؟! يتجهم وجهها وتنفعل "لا، مستحيل" بذات اللهجة الجميلة والغريبة تماماً كجمالها، ثم توقفني فجأة وتحدق في وتقول نصاً: "يا بنت إذا جيت مصر.. عنصرية؟!" فأقول بنفس طريقتها: "لا، مستحيل" ونكمل البطاطا والطريق ضاحكين.
في المرة الوحيدة التي خضنا فيها حديثاً على طريق الذهاب كان حديثاً أعمق من عمرينا، صارحتني فيه بأنها لا تحب اسمها، وكانت حُجتها ألا فتاة في العالم اسمها "خالدة" وأنه اسم ذكوري، وأخذت تسأل نفسها عن سبب لكي يمنحها أبواها مؤنث اسم توأمها خالد، وأنا أسمعها في صمت ولا أجد أية إجابة سوى "اسمك جميل" ومثيلاتها من الإجابات غير المقنعة.
الانفتاح الثقافي والثراء الفكري والمعرفي اللذان تعززهما الغربة بصداقات الأطفال -خصيصاً- من أعراق وأجناس مختلفة هما مزيتان لا تتحققان إلا بالغربة؛ لكن يبقى أسوأ ما في هذه الصداقات أن دوام التقاء أطرافها أو تواصلهم أحياناً هو درب من دروب المحال!
تركتْ عائلة صديقتي "خالدة" بالكامل أثناء إحدى إجازاتي الصيفية مع أسرتي بمصر عمارتنا أو المجمع السكني بأكمله، لا أعلم بالتحديد ما حدث، ولكننا افترقنا!
انقطع الاتصال بيننا دون سابق إنذار، لم تكن ثمة فرصة للوداع حتى بعد أكثر من خمس سنوات نلتقي فيها عصر كل يوم تحت لهيب شمس المدينة المنورة نسلم أيادينا الصغيرة لبعضها ونمضي لحفظ القرآن.
آخر ما استقر في ذاكرتي، أنها في أواخر الليلة التي تسبق سفري مباشرة، طرقت باب البيت للمرة الثانية بعد مرة "نيمو" لتهاديني بسوار صداقة نسجته خصيصاً لأجلي بالخيوط الزيتونية والسماوية والرمادية وقالت لي "اخترت ألوان عينيكِ يا صديقتي الصغيرة"، لفت انتباهي أن السوار غير مكتمل فأخبرتني بخشيتها أن تفوت تسليمه لي قبل سفري ثم صعدت الدرج إلى منزلها بسرعة البرق وتركتني وقلبي يرقص من فرط السعادة؛ أقتني سوار صداقة مما يزين معاصم مجموعة الصبايا في دار التحفيظ رغم أني ما زلت في مجموعة الأطفال أهدتني إياه "خالدة".
وأنا اليوم أقول لها -رغم أن كلامي ربما لا يصلها أبداً- إن اسمها غريب الجمال كما هي صاحبته، وإنني أتمنى ألا يقف نصيبها منه على خلودها في ذاكرتي وحدي ما حييت بل أن يمتد خلودها في دواخل الناس جميعاً، فخلود قلب كقلبها يضمن بقاء الخير في هذه الدنيا إلى يوم القيامة.
وأقول لها أيضاً إن اسمها لجماله ألبثني أمامه طويلاً قبل أن أستقر لابنتي مع أبيها على اسمها الحالي، وحتى بعد أن تجاوزناه إلى غيره تمنى قلبي أن تكبر "يافا" لتكون "خالدة" جميلة ورقيقة، حيية ومعطاءة، حنونة ونقية، دَيِّنة وخفيفة الروح لينة.
تلك الصبية التي كانت تفوقني عمراً وعقلاً وحكمة -أو قل في كل شيء- وما حاوَلت يوماً تقييدي أو توجيهي أو السخرية من أي من تصرفاتي الطفولية، أو حتى ممارسة أي نوع من التسلط والديكتاتورية المعتادين في علاقات مَن كانوا في عمرها مِن المراهقات مع مَن كانوا في عمري مِن الأطفال.
إلى صديقة طفولتي الـ"خالدة" ومن أجلها، الفتاة الأفغانية الجميلة التي دفعني لرفقتها والداي لتعزيز إنجليزيتي؛ فعلمتها العربية بلهجتها المصرية وعلمتني الأوردو!
أرجو من الله كما جمعنا تحت شمس مدينة رسوله على طريقنا إليه، أن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.