أردوغان ليس سلطاناً وليس امتداداً للحركات الإسلامية.. تأملات في انتخابات الرئاسة التركية

عدد القراءات
849
عربي بوست
تم النشر: 2023/06/01 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/06/01 الساعة 13:29 بتوقيت غرينتش

من نافلة القول التأكيد على عدم إلمامي بالملف التركي إلماماً يسمح لي بالغوص في ملفات شؤونها الداخلية، وهذا لم يمنع أن تتكون لديَّ مجموعة من التأملات التي بنيتها على ردود الفعل العربية على مجريات الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت يوم 28-5-2023 وحسمها أردوغان بفوزه بنسبة 52.14% من أصوات الناخبين الأتراك! وتتمحور تأملاتي حول ردود فعل النخب الثقافية العربية -لا سيما المصرية- من خلال متابعة تعليقاتهم في مواقع السوشيال ميديا تحديداً، مما يضفي على هذه التأملات سمة العفوية والارتجال والبساطة بعيداً عن الأبعاد الأكاديمية لآداب البحث المتخصص، وغير آخذ في الاعتبار وجهة النظر الرسمية للدول العربية المختلفة.

أولاً: رصدت في التعليقات المختلفة شدة إعجاب النخب الثقافية -وبينهم محسوبون كثر على تيار الإسلام السياسي والثقافي- بالديمقراطية التركية إعجاباً يصل إلى حد الدهشة والذهول! ويباهون به في وجه مؤيدي الأنظمة العربية التي لا تتنفس أجواء هذه الثقافة الديمقراطية، والعجيب حقاً الذي يجب التوقف عنده أن هذه الممارسة الديمقراطية الرائعة لم تكن وليدة ولا امتداداً لممارسة الدولة العثمانية التي أُسقطت منذ مئة عام، والتي يحلو للبعض أن يعتبر فوز مشروع أردوغان امتداداً لها، فالدولة العثمانية لم تفرز الديمقراطية الحديثة لا فكرة ولا ثقافة أو ممارسة، بل على العكس من ذلك نجد أن هذه الديمقراطية التي تتمتع بها تركيا تمتعاً جعل قرابة نصف أصوات الناخبين تذهب لمنافس الرئيس دون غضاضة أو امتعاض أو تدخل من أجهزة الدولة المختلفة، هذه الديمقراطية وليدة التجربة السياسية الغربية، وفي الحالة التركية هي نتيجة تعاطي الحالة الأتاتوركية متطرفة العلمانية مع محددات السياسة الغربية طلباً لود الاتحاد الأوروبي، واستجابة لشروطه وضغوطه.

فالديمقراطية لم تكن نتيجة تجربة إسلامية في التاريخ ولا في التراث، ولم يستطع المسلمون تقديم نظرية في السياسة تكافئ ما أنتجته الخبرة السياسية الغربية مثل الديمقراطية الغربية، الإسلام نفسه كدين -وليس كتراث أو تطبيق- قدم مبدأ عظيماً جداً اسمه الشورى وجعله فرضاً بالقرآن الكريم في أمره تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) "آل عمران: 159″، ولقد قدمت الخبرة العملية في سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تجربة رائعة في ممارسة الشورى ليس فقط في استنباط الرأي السديد بتداوله بين الناس، وإنما بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بنظام التمثيل النيابي، أخرج أبو داود في السُنن أن النبي ﷺ قال: "لا يستقيم الناس إلا بعرفاء".

 كما أخرج البخاري في الصحيح أنّ النبي ﷺ يوم أوطاس لما أتاه بنو هوازن فسألوه أن يرد عليهم السبي والغنائم: ……. فقال: "أخرجوا إليّ عرفاءكم، فأخرج الناس إليه عرفاءهم فأخبروه أنهم رضوا"، كما وضعت الخبرة العملية في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التعددية وقبول تعدد الصواب رغم وحدة الحق، وهذا ما جعل الإمام ابن تيمية يصف نوع الاختلاف الذي كان يحدث بين صحابة رسول الله ﷺ (باختلاف تنوع لا اختلاف تضاد)، إن تجربة ممارسة الشورى والتمثيل النيابي وقبول التعددية في دولة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تؤسس لثقافة وممارسة سياسية كانت جديرة بإنتاج تطبيق سياسي إسلامي يسبق العالم المعاصر إلى أدوات الديمقراطية الغربية يدعو إلى محاسنها ويتجنب عيوبها، لكن الممارسة الإسلامية التاريخية لم تكن في مجملها في مستوى عطاء وإشراقات سمات دولة النبي صلى الله عليه وسلم.

على أن أعظم قواعد الإسلام أنه وإن لم يسبق إلى وضع تفصيلات العملية الديمقراطية المعاصرة، فإنه فعل ما هو أعظم من ذلك عندما اعتبر أن تقنيات الممارسة الديمقراطية من باب الوسائل والأدوات ضمن مساحة العفو التشريعي، وبالتالي هي خاضعة للتجربة البشرية الحياتية، وغير محكومة بنص يمنع.

هذا هو الإسلام كتشريع، فماذا عن فهم المسلمين الذين يباهون بنتائج الديمقراطية وثقافتها وأجوائها في تركيا ويرفضونها في غيرها من البلدان الغربية، ويتحفظون على نقلها في مجتمعاتهم؟!

ثانياً: ماذا يمثل مشروع أردوغان؟ ولماذا يحتفي بفوزه الإسلاميون العرب (تيار الإسلام السياسي والثقافي)؟ 

الحقيقة التي تبدو صادمة أن مشروع أردوغان وتجربة حزب العدالة والتنمية هو تشييد لمرحلة ما بعد الإسلام السياسي، بتعبير الباحث الأردني محمد سليمان أبو رمان (وزير ثقافة أردني سابق) في الكتاب المنشور: "ما بعد الإسلام السياسي مرحلة جديدة أم أوهام أيديولوجية؟".

 أما بالنسبة لكاتب التأملات فيمثل مشروع أردوغان تفكيك وسقوط مشروع التنظيمات الحركية الإسلامية التي انتشرت -وتسيدت الحالة الإصلاحية- في مجتمعاتنا العربية المختلفة، لقد أسس مشروع أردوغان إلى سقوط نظرية التنظيم الشامل، ولم يكتفِ بالحفاظ على حزبه –العدالة والتنمية- كحزب سياسي محافظ –بالمعايير الأخلاقية- كما يقدم نفسه فحسب، بل ناصب حركة فتح الله كولن الدعوية -الشمولية أو شبه الشمولية- الخصومة والعداء، وكذلك فعل مع حزب السعادة التركي الذي أسسه أستاذه أربكان!

 أو ناصبت حركة كولن أردوغان العداء ودبرت الانقلاب العسكري عليه، وكذلك فعل حزب السعادة الذي انضم إلى خصوم أردوغان السياسيين، فما كانت الحركات والأحزاب الراديكالية لتناصبه العداء لولا تيقنها من الافتراق الجوهري لمشروع أردوغان عن مشروعهم!

ماذا تعني هذه الملاحظة؟ تعني أنه لو كان لمشروع أردوغان مثيل في مجتمعنا العربي، فإنه كان سينشئ حزباً سياسياً بالمفهوم السياسي ووفق الضوابط السياسية ولن يكون له أي امتداد خارج هذا الإطار الحزبي، لا جماعة ولا تنظيم دعوي من أي نوع، ليس هذا فحسب، بل إنه كان سيسعى بحزم إلى مواجهة وحل التنظيمات والجماعات الحركية الإسلامية التي تماثل جماعة كولن في تركيا، وستناصبه الأحزاب ذات الصلة التاريخية بمشروع الإسلام السياسي العداء!

فوز أردوغان يمثل خصماً أكيداً من مشروع الإسلام الحركي برمته ولا يمثل أي إضافة له.

ثالثاً: حمل المعلقون من النخب التي تنتمي لتيار الإسلام السياسي والثقافي فوز أردوغان بحمولة انتصار ديني معتبرين إعلان فوزه بمثابة فوز المئذنة على الخمارة، وهذا كلام غير دقيق؛ لأن المشروع الذي قدمه أردوغان لشعبه كان مشروع إنجاز اقتصادي بامتياز متجاوزاً هذا المنطق الأيديولوجي المتآكل، فمن أين جاء المهللون العرب من "تيار الإسلام السياسي والثقافي" بهذه الحمولة الدينية للحدث؟

رابعاً: إن أردوغان الذي عدل الدستور التركي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي لتظل له السلطة العليا- ليس سلطاناً كما يصفه محبوه العرب، فالسلاطين لا يقبلون بمبدأ الانتخابات لتقلد السلطة، السلاطين يتقلدون السلطة بالقوة والعصبة!

خامساً: أردوغان -الذي استبعد الرجال الأقوياء من معاونيه في محطات مختلفة- ليس ديكتاتوراً، فالديكتاتور لا يدخل جولة إعادة في الانتخابات الرئاسية، ثم يصوت ضده نصف شعبه تقريباً. 

لقد انتصرت إرادة الناخب التركي، ومن قبله انتصرت ثقافته في الممارسة الراقية لحقه الانتخابي وفق قواعد التعددية والحرية التي تحكم المجتمع، وكمثقف عربي -إن سمحتم لي بوصف نفسي بذلك- سعيد بالتجربة التركية والأجواء التركية، سعيد للشعب التركي الشقيق، وسعيد لأنني تنبأت مبكراً بانتصار مشروع ما بعد الإسلام السياسي، الذي أبشر به في مقالات عديدة منذ عشرين عاماً. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علاء سعد حميده
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
تحميل المزيد