تتبوأ قضية الطفولة والمراهقة مكانة بارزة في السيكولوجية الحديثة، غير أن هذا الوضع لم يكن ذا أهمية قبل قرن أو أكثر من الزمان، حيث كان معظم الأطفال يصوَّرون وكأنهم شياطين، حسب تصور بعض الفلاسفة لهم، أو يصوَّرون على أنهم حاملون للخطيئة الأصلية كما كانت تنظر إليهم بعض الفرق في الديانة المسيحية، غير أن وضع الطفولة في القرن العشرين سيعرف نقلة نوعية، وبالتالي تتحقق نبوءة الشاعر الإنجليزي الذي قال بأن الطفل هو أب الرجل The Child Is the Father of the man غير أن الإشكال الذي يظل مطروحاً اليوم، هو ما وضع الطفولة في العالم العربي؟ وهل فعلاً كما تصور السيكولوجية المعاصرة أن المخلص للطفولة هو ما أتت به النزعة الإنسانية وما بعدها من فلسفة الأنوار وغيرها، وصولاً إلى أحدث النظريات في سيكولوجية الطفل، مثل البنائية، والفطرية، وقبلهما نظرية التحليل النفسي لصاحبها فرويد، أم ترى أن تاريخ الاهتمام بالطفولة يرجع امتداده إلى زمن أطول من هذا الذي يذكرونه.
الطفولة في المجتمعات القديمة
في عمله المميز؛ الطفولة في التاريخ العالمي، يتتبع الكاتب بيتر سترنز Peter N. Stearns، تاريخ الطفولة في المجتمعات القديمة ابتداء من مجتمع الصيد ثم المجتمع الزراعي؛ حيث إن ظهور الزراعة كما يرى طرحت إشكال خروج الأطفال للعمل، غير أن التحول الكبير الذي ستعرفه الطفولة إبان الحقبة الكلاسيكية هو ظهور الأديان، حيث إنها ساهمت بشكل كبير في تغيير وجهة النظر تجاه الطفل، فيرى أن وجهة نظر الأديان ستختلف، فهناك بعض الأديان التي نظرت نظرة سلبية إلى الأطفال مثل الديانة المسيحية، التي رأت أن الأطفال يولدون وهم محملون بالخطيئة الأصلية، وذلك بخلاف الديانة الكونفوشيوسية التي وقفت موقفاً وسطاً؛ حيث نظرت إلى موضوع الطفولة بنوع من الحياد، وأما بعض الديانات التي ظهرت ما بين النهرين فإن مواقفها إزاء الطفولة ليست واضحة تماماً، كما يرى ذلك صاحب الكتاب، إلا بعض الممارسات التي ورثت عنها، مثل أن الطفل يرث العبودية، ولم تحدد هذه الحضارات الثقافة موقفاً واضحاً من الطفل، كما أن الوثائق والبحوث المتحصلة عن هذه الحقبة لم تساعد في إعطاء تصور أكثر وضوحاً عن مكانة الطفل.
الإسلام يصحّح التصور
ويؤكد الكاتب أن الدين كان من بين أهم العلامات البارزة التي بصمت تاريخ الطفولة في العالم القديم، وكما سبق ورأينا إذا كانت بعض الديانات نظرت بنوع من الحياد إلى قضية الطفولة، أو نظرت لها نظرة سلبية، فإن الدين الإسلامي نظر إلى موضوع الطفولة نظرة إيجابية، حيث إنه تقريباً الدين الوحيد الذي جاءت معه تباشير تخليص الطفولة من بعض الممارسات المهينة، والمقيتة التي كانت تمارس على الأطفال، ويبرز ذلك في مجموعة من النصوص التي أكدت على وجوب العناية بالطفل، فبداية نجد أن القرآن واضح في مسألة هل يولد الطفل وهو ملوث بالخطيئة، كما ترى ذلك المسيحية؟ أم أن الأطفال يولدون على الفطرة، وهذا ما نجده مؤكداً في نصوص من السنة النبوية، ونستحضر بهذا الصدد كذلك قضية تحريم وأد البنات، وغيرها من السلوكيات الشنيعة التي كانت سائدة في المجتمع العربي ما قبل الإسلام، والذي لا شك أنه كان متأثراً، ببعض الحضارات السابقة في المنطقة، وكل هذا يؤكد مدى عناية الدين الإسلامي بمسألة الطفل، والدعوة إلى تجاوز أو تصحيح بعض الممارسات السابقة على الإسلام، التي تحط من كرامة الطفل، أو تزدريه.
وأما من حيث التعليم، فإن نسبة القراءة، كما يقدر محرر كتاب الطفولة في التاريخ العالمي، أنها بلغت نسبة الثلاثين في المائة من الراشدين كانوا يجيدون القراءة والكتابة، ومن مختلف الجنسين، وهذه نسبة كما يرى الكاتب لم تكن موجودة في العالم من قبل، وما ذلك إلا تطبيق للرؤية التي جاء بها الدين الإسلامي، كما نجد أن من كمال العناية بالطفل في الدين الإسلامي أنه حث على طقوس معينة في التربية، منها تحديد سن الرضاع، اختيار اسم جميل للطفل، تعليمه بعض المهارات، وغيرها من الأمور المبسوطة في مواضيع متعددة، والغرض هنا التنبيه عليها فقط، كما أن القرآن مليء بقصص لأنبياء وهناك مواطن يذكر فيها طفولتهم؛ مثل موسى ويونس عليهما السلام، وهناك قصص أيضا للأطفال آخرين مذكورة في القرآن الكريم، كل هذه المعلومات تؤكد قضية واحدة، هي أن القرآن نظر لقضية الطفولة كغيرها من القضايا نظرة لم يسبق لها مثيل، وجاء بتصور جديد لها، ويمكن القول إنه ثوري، غير أن السؤال يظل مطروحاً، لم لم نستثمر هذا الأمر؟
التصور الجديد للطفل في العالم المعاصر
غير أن معظم رواد السيكولوجيا اليوم وللأسف يتنكرون لهذا الإرث الإسلامي، في حين أنه إرث غني في هذا الميدان، وما ذاك إلا تشبث بالنظرة الغربية التي ترى أن الاهتمام الحقيقي بالطفل بدأ مع رواد النزعة الإنسية في أوروبا، هذا الأمر صحيح غير أنه لا يعني التنكر للمجهودات التي قدمتها بعض الحضارات السابقة ومنها الإسلامية على وجه الخصوص، فالعلاقة بتاريخ الطفولة العالمي صحيح أنه في العالم الغربي بدأت تتغير النظرة السلبية للطفل بدءاً من ظهور تيار التنوير، وسيعرف هذا التغير أوجه في بداية القرن التاسع عشر والعشرين، حيث بدأت إلزامية التمدرس في أمريكا بشكل خاص، ومن ثم بدأ التأليف والاهتمام بسيكولوجية الطفل، ومن أشهر من كتب عن الطفل داروين الذي كتب كتابه المعروف مختصر سيرة طفل صغير، الذي سجل فيه ملاحظته على طفله الصغير، بالإضافة إلى تأسيس الجمعية الأمريكية لطب الأطفال، وتأسيس بعض المعاهد مثل معهد ألفريد بينيه، صاحب أول مقياس للذكاء.
كما أن القرن العشرين سيعرف ظهور مجموعة من النظريات التي غيرت نظرة الإنسان للطفل كلياً، فبدأ من فرويد الذي اعتبر أن نمو شخصية الإنسان يكتمل في خمس سنوات الأولى، وسيأتي بنظرية النمو الجنسي للطفل التي تفسر مصدر العصاب عنده، ثم سيأتي بعده بياجي الذي جاء بكتاب يفسر فيه كيف يفهم الطفل العالم من حوله، وجاء بأربع مراحل رأى أنها مراحل كونية، أي أن كل الأطفال يمرون منها أثناء النمو، غير أن نظرية بياجي كما فرويد سيتبين أنهما تعتريهما عدة اختلالات منهجية، وهذا ما سيحاول استدراكه التيار المعرفي في علم النفس مستفيداً من الثورة المنهجية، التي بدأ صداها في ستينيات القرن المنصرم.
بفضل ظهور مناهج جديدة، أصبحنا ندرك اليوم أن الأطفال ليسوا كما كنا نتوقع من قبل، أنهم يولدون وهم صفحة بيضاء كما رأى الفلاسفة التجريبيون، كما أنهم لا يتعلمون أي شيء إلا بعد أن يكتسبوا اللغة، بل يولدون وهم مزودون بجهاز معرفي في ذهنهم يمكنهم من تفسير العالم من حولهم، كما أنهم حتى قبل أن يولدوا فإنهم يكونون مزودين بقدرات كثيرة، بل بذكاءات متعددة، كل هذا جاء نتيجة ثورة منهجية، وتغيير في الأدوات والأساليب التي كانت مستعملة من قبل في تقييم الأطفال، والتي ستعرف فيما بعد بالكفاءات المبكرة للأطفال، كما ينص على ذلك التيار الجديد في علم النفس، والذي عرف بالفطرية، وكل هذه النقاشات العلمية، ستعرف صدى لها داخل المجتمع، بدءاً من سن قوانين تحمي الأطفال، ثم البحث عن سبل وطرق جديدة في التعلم، ومحاولة توفير بيئة سليمة سواء للتنشئة أو التمدرس للأطفال، وهذا الأمر كانت له نتائج إيجابية على الأطفال، أو على الإنسان المعاصر بشكل عام، على الأقل أن نموه ومعارفه تتوافق مع العالم الذي يعيش فيه.
واقع العالم العربي
للأسف ينبغي أن نؤكد هنا، أن الجهود في العالم العربي، هي قليلة في هذا المضمار، خاصة إذا ما استحضرنا أن هناك الكثير من الأطفال ما زالوا محرومين من بعض الحقوق الأساسية، مثل التعليم، الصحة، بل نتحدث عن ظروف صحية سليمة، للتنشئة والتمدرس، غير أن المفارقة تظل هنا، هي كيف أن الحضارة الإسلامية كانت السباقة إلى العناية بالطفل، كيف أن هذا الإرث لم يستثمر في تحسين وضعية الأطفال، كما أنه لا داعي للحديث هنا عن قضية التعنيف في التربية، صحيح أنه ليست هناك إحصائيات وأرقام دقيقة، غير أن الوضع من خلال الملاحظة، وتتبع بعض التقارير الإعلامية، يظهر جلياً أنه غير مطمئن، ولا يفوتنا أيضاً ربط هذا الأمر ببعض الأحداث التي تشهدها المنطقة، من نزاعات مسلحة، وحروب، وللأسف أول المتضررين يكونون هم الأطفال.
المجتمع السليم يعني مواطنين سالمين، من جميع النواحي، الذهنية والفكرية، والجسدية، لا يمكن أن يتحقق كل هذا إلا بالعناية ببذرة المجتمع، البذرة هي الطفل، قال حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إن أعددتها…. أعددت شعباً طيب الأعراق… لكن قبل الأم هناك الأطفال، إن أعددتهم أعددت أمة طيبة الأعراق، والأخلاق، أيضاً، الطفولة هي نواة المجتمع الحقيقي، والاستثمار في الأطفال هو أفضل استثمار يمكن أن تقوم به الأمم، التي تريد أن تكون رائدة، ويكون لها صيت بين الأمم الأخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.