هناك مثل صيني يقول فيما معناه "سمعت فنسيت، ورأيت فتذكرت، لكن فهمت حينما كتبت" هذا المثل، يلخص الكثير من الأمور، يجعلنا ندرك الفرق بين أن نرى أو نسمع عن أمر ما، أو نعيشه حتى، وبين أن نكتب عنه، الكتابة عن موضوع ما مهما كان، تجعلنا نقترب منه أكثر، نفهمه، ومن ثم ربما إن كان مصدر إزعاج لنا، نحاول أن نتجاوزه، بأن نتعايش معه.
في طفولتنا نعيش الكثير من التجارب، بعضها قد يكون حزيناً، والبعض الآخر مؤلم، مع توالي الأيام يجعل دماغنا يتجاوز اللحظات المؤلمة، غير أنه ونحن نعتقد أننا قد تجاوزنا تلك الذكريات، فإنها تظل قابعة هناك في لا وعينا، وغالباً ما تكون تلك الذكريات مصدر إزعاج لنا، أو سبب اضطرابات نفسية تصيبنا، والتي في غالب الأحيان ما نكون غير مدركين لمصدرها، فنشعر بالخوف والقلق الدائم، ولا نعرف مصدرهما، نُصاب بالرهاب الاجتماعي ولا نعرف لمَ، وبمرور الوقت قد نصبح انطوائيين معزولين عن محيطنا، أو منفصلين عنه نفسياً وعاطفياً، ليس لنا أي تعلق بالموجودين حولنا، غير أن كل هذه الأمور تحدث لنا ونحن لا نعرف مصدرها، وغالباً ما يكون السبب هو تلك التجارب المؤلمة التي عشناها في الصغر، واعتقدنا أننا بمجرد أن لم نعد نتذكرها فإنها قد مُحيت من حياتنا، لكن الحقيقة أن ذهننا الواعي لا يريد تذكرها ولا استرجاعها فقط؛ لأنها مقرونة بالألم بالنسبة لنا، ولهذا نحاول نسيانها، بينما هي تظل هناك، وربما إلى الأبد، إذا لم نستطع التصالح معها، غير أن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح هو: هل هذه الاستراتيجية التي نتبعها، هي استراتيجية سليمة، أم أننا مخطئين في تبنينا لها؟
الكتابة كوسيلة للتعبير عن الغضب الذي يسكننا
في فيلم الانفصال detachment نرى Henry Barthes الأستاذ الذي لعب دور الشخصية الرئيسية في الفيلم، في أكثر من مشهد، يحاول أن يقنع الطلاب بأن يكتبوا عن تجاربهم المؤلمة، في أحد المشاهد الأكثر دلالة في الفيلم يأتي إليه أحد الطلاب وهو حانق وغاضب جداً، يمسك بمحفظة الأستاذ ويرمي بها، يظل الأستاذ هادئاً ويجيب بنبرة لا مبالية، تلك مجرد محفظة ليس لها أية أحاسيس أو شعور… يمكن أن نتساءل هل فعلاً كان الأستاذ يتحدث عن المحفظة، أم أنه يصف نفسه، وهو الذي كان منفصلاً عمن يحيطون به، لا يملك أي شعور تجاههم. مع توالي أحداث الفيلم نفهم أكثر عن طبيعة شخصية الأستاذ، نفسيته أكثر هشاشة، كما أنه أكثر عاطفية وإحساساً بمن يحيطون به، هو منفصل جسدياً، غير أنه ربما هو الأكثر التصاقاً وتعلقاً بمن يحيطون به، يناول الأستاذ الطالب ورقة، ثم يعود لمكانه، ويبدأ في الكتابة، ينتهون، يناولون الأستاذ الأوراق، يبدأ في القراءة، وحينها يدرك سبب غضبهم وتجهمهم، سبب تعاستهم، إنه عالمهم الداخلي، الذي تشكل من واقعهم المزري، أحداث عاشوها وظنوا أنها مضت بمجرد أن انتهت، لكنها في واقع الأمر ما زالت تسكن دواخلهم.
بينما نعتقد أننا ببساطة قد نتجاوز تجاربنا المؤلمة، بتفضيل عدم الحديث عنها، تزداد تلك التجارب استحكاماً في دواخلنا، بل مع الوقت تبدأ أعراضها تطفو على شخصيتنا، تظهر في سلوكيات معينة، الذكريات والأحداث والتجارب، مثل المادة تماماً، إنها لا تعدم، فقط تغير شكلها، تتلون بألوان مختلفة، لكنها تظل مستحكمة فينا، الحل هنا ليس في تجاوزها أو نسيانها، إنها لا تُنسى بكل تأكيد، فقط تنزوي في ركن ما في أعماق لا وعينا، وسرعان ما تظهر على شكل أعراض نفسية، فالحل هو الوعي بها، أو الاقتراب منها أكثر، ومن ثم فهمها، ومحاولة التصالح معها أو تقبلها، أما حينما نحاول تجاوزها أو نسيانها، فيصبح حالنا كتلك النعامة التي تغطي رأسها، وتعتقد أن لا أحد يراها، بينما كل جسدها يكون مرئياً، للأسف هناك عدة ثقافات تشجّع على أمر نسيان الماضي، وكأنه مجرد ملف على الحاسوب، سينتهي بمجرد ضغطة زر، معتقدين أن تلك الذكريات ستمحى تماماً، هذا الأمر وإن كانت له بعض الفاعلية على المدى القريب، إلا أنه ليس حلاً مناسباً على المدى البعيد، بل الواجب هو استحضار تلك الذكريات مهما كانت مؤلمة، إنها مثل الجمر، سرعان ما سيخبو لهيبها، وبالتالي ستفقد فاعليتها، وهنا ستصبح مصدر صلابة لنفسيتنا، بدل أن كانت مصدر قلق وإزعاج.
بالعودة إلى الفيلم أعلاه، نجد أن الأستاذ، والذي سيصبح أكثر التصاقاً بالتلاميذ، وأكثر تعاطفاً مع المحيطين به، وذلك على خلاف عنوان الفيلم، يفضل في كل مرة أن يجعل هداياه عبارة عن مذكرات، صحيح أنه لم نشاهده وهو يكتب، غير أن طيف الماضي لم يفارقه، في كل مرة يستحضر مشاهد من طفولته، وحينما قدمت إليه إحدى تلميذاته تطلب مساعدته، يجيب بعبارة تلخص مغزى الفيلم، حسب ما أرى، حيث يقول: "أعلم أن الحياة مقلقة، لا أملك إجابة لذلك، لكني أعلم أنك إن استطعت أن تكتبي عنها، فسيكون ذلك أفضل" هذه الجملة في اعتقادي هي التي تلخص القضية الأساس التي يعالجها الفيلم، العلاج عن طريق الكتابة، صحيح أنه حينما أهدى مذكرة لتلميذته، كانت قد اتخذت قرارها بمغادرة الحياة، لكنه كان مدركاً أنها إن استطاعت الاستماع لنصيحته، كانت ستغير قرارها، فالغضب الذي كان بداخل أولئك التلاميذ بسبب واقعهم، لن يستطيعوا التخلص منه إلا بالكتابة عنه، وفي حالة لم يكتبوه فإنه يكون قد انتصر عليهم، وأفضى ببعضهم إلى اتخاذ قرار مغادرة الحياة، فكان هو الذي يتحكم فيهم، بينما يتوهمون أنهم هم من يتحكمون فيه.
أي كتابة تلك التي تعالجنا، وما مصدر هذا النوع من العلاج؟
العلاج بالكتابة اعتمد كتقنية للعلاج النفسي منذ السبعينيات، كما أنه برز كتقنية للعلاج النفسي في الكثير من الأفلام، والتي أفضل معالجة أي موضوع عن طريقها، لأنني أعتقد أنها بمثابة تطبيق لأحدث النظريات في المجال العلمي والأكاديمي داخل المجتمع، وهذه التقنية لم تُعتمد إلا بعد أن أكدتها عدة دراسات، حيث نجد أنه قد أُجريت عدة بحوث ميدانية على هذا الأمر، وكل الدراسات والتجارب كانت تحاول فهم ما مدى تأثير الكتابة على التخلص من بعض الأعراض النفسية، مثل القلق، الاكتئاب، اضطراب ما بعد الصدمة، وغيرها الكثير من الاضطرابات النفسية، وقد كانت النتائج مرضية، حيث إنه تبين من خلال هذه الدراسات أن الكتابة لها مفعول عجيب في التخلص من هذه الأعراض، أو على الأقل التقليل من حدتها، طبعاً الحديث عن الكتابة هنا المقصود به هو الكتابة التعبيرية، expressive writing، والمقصود بالكتابة التعبيرية هو الكتابة عن تلك الأحداث المؤلمة التي عشناها، وبشكل خاص تلك التي يسبب الحديث عنها مصدر إزعاج لنا.
يكمن دور الكتابة التعبيرية، في كونها تجعلنا نكتب عن لحظات أو تجارب في حياتنا، لا نستطيع الحديث عنها لأي أحد كان، لكن نظراً لأن الكتابة، وكأنها الحديث إلى شخص آمن ولا يستطيع أن يبوح بأسرارنا مهما حدث، فإنها تعطينا الأمان في الحديث والبوح بكل ما يجري داخلنا، سواء تلك الأحداث المؤلمة التي عشناها، أو الحديث عن تلك الرغبات المكبوتة التي لا نستطيع البوح بها لأي أحد مهما كانت منزلته عندنا، لذلك نفضل الحديث إلى الورق، لأنه الشيء الوحيد الآمن الذي يجعلنا نتأكد أنه لن يبوح بأسرارنا، وعن طريق الحديث عن تلك الذكريات المؤلمة، فإننا نتخلص منها، أو على الأقل تصبح أمراً عادياً بالنسبة لنا، ولم تعد تشكل أي إزعاج نفسي، وهذا ما يعطينا راحة نفسية، أو يجعلنا نتصالح مع ذواتنا، ونصبح أكثر رضى عنها.
ينبغي التأكيد على أن هذه التقنية، تعود أصولها إلى نظرية فرويد في العلاج النفسي، والذي يرى أن المريض يستطيع أن يُعالج عن طريق الحكي، أو التحدث بحرية، على خلاف بين رواد مدرسة التحليل النفسي، هل المعالج يتدخل أثناء عملية الحكي، أم أن دوره هو الإنصات فقط، وجعل المتحدث يتكلم بحرية عن تجاربه، بعد ذلك يأتي دور المحلل النفسي، حيث إنه يحاول فهم المصادر الأساسية التي تسبب إزعاجاً لهذا الشخص في حياته، وذلك من خلال تحليل الحكاية التي يرويها، ومحاولة الوقوف على بعض الاستعارات والرموز التي يستعملها، وذلك بغية إرجاعها إلى المصدر الأساس، حسب فرويد الذي يرى أنه هو الغريزة الجنسية التي تتحكم في دوافعنا، طبعاً نظرية فرويد أصبحت متجاوزة في العلاج النفسي، غير أن التقنية التي استعملها، وهي الحديث الحر عن الذكريات المؤلمة ما زالت فعالة، وهذا ما أثبتته بعض الدراسات والتجارب الميدانية كما سلف، ويمكن للقارئ الاطلاع عليها في المصادر المرفقة، حيث أكدت على أن الحديث عن التجارب المؤلمة يجعلنا نُشفى منها، والكتابة هي من وسائل الحكي عن الذات، وربما في زمن الفضائح وهتك الأستار، أصبحت هي الوسيلة الأكثر أماناً مقارنة بغيرها.
الكتابة كوسيلة للتربية والانضباط
في الأخير أريد الوقوف عن أحد الأفلام التي أرى أنها مهمة أيضاً، والفيلم مقتبس من مذكرات تحمل نفس العنوان، وهو Freedom Writers يحكي الفيلم قصة حقيقية لإحدى المدرسات، التي قادها القدر للتدريس بإحدى المدارس التي كانت تشهد الكثير من العنف، والتمييز العنصري بين التلاميذ، وخاصة ذلك القسم الذي أوكل إليها تدريسه، غير أن المدرسة لم تستسلم، وبالتالي حاولت الاقتراب أكثر من التلاميذ، وذلك من خلال النفاذ إلى عمقهم، وفهم مصادر آلامهم وغضبهم، ومن ثم جعلت تذكرهم بأن غضبهم وتمردهم ليس هو الحل، بل ربما هذه الطريقة ستزيد من آلامهم، كما أنها ذكرتهم ببعض الأحداث التي جرت في الماضي مثل الهولوكوست، الحروب، وخاصة الحرب العالمية الأولى والثانية، وغير ذلك من الأحداث الكثيرة، ما يهم هنا هو أنها لم تستطع النفاذ إلى أعماقهم إلا عن طريق جعلهم يكتبون عن ذواتهم ومعاناتهم، في الأخير سينصاعون، وبالتالي ستنجح في مهمتها بأن تجعلهم يغيرون سلوكياتهم، من سلوكيات لا مجتمعية، إلى سلوكيات منضبطة، تتوافق مع المجتمع الذي يعيشون فيه.
الكتابة واحدة من بين تقنيات أخرى، تجعلنا نتخلص من بعض الآلام النفسية، مثل ممارسة الرياضة، أو بعض الهوايات المفضلة لدينا، التحدث إلى الناس، الحديث عن تجاربنا، غير أننا ونحن في عالم أصبحت تطغى فيه الفردانية يوماً بعد يوم، ونزداد انعزالاً يوماً بعد يوم، لم يبقَ لنا من وسيلة لممارسة هذا الأمر إلا الكتابة، وكما سلف، فالكتابة التي تفي بالغرض هنا هي تلك الكتابة التعبيرية، أي الكتابة عن ذواتنا، وعن تجاربنا، عن طموحتنا، وعن أحلامنا التي حال الواقع دون تحقيقها، بالكتابة عنها، نجعلها وكأنها حية معنا، بدل أن نعتقد أننا أقبرنها، وهي في الحقيقة قد تحولت لمصدر إزعاج لنا لا غير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.