لا شك أن الانتخابات التركية التي جرت في 28 مايو 2023، والتي أفرزت فوز الرئيس رجب طيب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية، متفوقاً على منافسه وغريمه في المعارضة "كمال كليجدار أوغلو"، رئيس حزب الشعب الجمهوري، بنسبة مئوية تفوق 50 في المئة، بعد إجراء الجولة الثانية، قد لاقت هذه الانتخابات اهتماماً كبيراً من كبريات عواصم دول العالم، لما تمثله تركيا من قيمة اقتصادية، وعسكرية وسياسية، وجغرافية على المستوى العالمي، فكانت كذلك فرصة للأتراك للظهور للعالم بشكل آخر بعد أزمات متتالية عرفتها البلاد من أهمها تدهور الاقتصاد وآخرها الزلزال المدمر التي عرفته جنوب البلاد، والذي كان له أثر مدمر على المناطق المتضررة .
هذا كله لم يثنِ أو يبعد الأتراك عن المشاركة في الحياة السياسية، ففي وقت قصير لم تنتهِ بعد فيه تداعيات الأزمات والكوارث، لذلك أظهر الشعب التركي أن الحياة السياسية والمشهد السياسي بالنسبة لهم أصبح دافعاً مناسباً لحياتهم من أجل التطور والتقدم والإنجاز.
هذا يضاف إلى ما تعرفه تركيا من إنجازات وتطور على المستوى المؤسساتي، وأثبتت بذلك التجربة الديمقراطية التركية في الجمهورية الحديثة، أنها باتت تحتل المراتب الأولى عالمياً في مسألة المشاركة السياسية والتناوب على السلطة.
في فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، والتنافس الشديد التي أبانت عنه الحملة الانتخابية، والإحصائيات التي أفرزتها نتائج الانتخابات بين المرشحين للرئاسة في الجولتين الأولى والثانية، وكذا نسبة المشاركة التاريخية بين المصوتين، كل هذه المعطيات أظهرت للعالم صحة نجاح التجربة الحديثة للدولة التركية في التنافس على السلطة رغم ما تعرفه تركيا الحديثة من اختلافات أيديولوجية وانتماءات قومية وعرقية.
من جهة أخرى، الطريق لم تكُن بتلك البساطة والسهولة للرئيس أردوغان للحصول على الرئاسة للولاية الثالثة، وذلك راجع إلى عدة عوامل داخلية نذكر منها الأزمة الاقتصادية، وانخفاض قيمة العملة "الليرة" والتضخم، والتي أثرت بشكل كبير على حياة الأتراك المعيشية وعلى المقاولات الصغرى الناشئة.
والى جانب العامل الداخلي الثاني هنا الزلزال الكارثي الذي عرفته تركيا وكان له أثر مباشر على حياة نصف سكان تركيا وتداعيات البشرية والمادية الجسيمة.
أما العامل الخارجي فيظهر للعيان في عدم قبول الدول العظمى، وخاصة أمريكا، ولو بشكل غير مباشر لاستمرار حكم أردوغان والعدالة والتنمية، وذلك راجع إلى السياسة التي انتهجها أردوغان، منذ محاولة الانقلاب الأخيرة عليه وتوجهه إلى مفهوم "البراغماتية" السياسية مع جميع القوى الدولية، وذلك ما حصل بعد التقارب والسياسات والاتفاقات التي نهجها مع العدو التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية روسيا الاتحادية.
إضافة إلى ذلك ما عرفته تركيا في السنوات الأخيرة من تطور، وقفزة نوعية على المستوى الاقتصادي وفي مجال التصنيع العسكري، وكذا الدور السياسي الريادي في حل عدة قضايا وأزمات إقليمية ودولية، لم تعجب القوى المتحكمة دولياً، وخاصة أمريكا والاتحاد الأوروبي ولم تكن تصب في خانة سياساتها.
هذا كله أعطى زخماً وإشعاعاً آخر للانتخابات التركية إقليمياً ودولياً، وفي نفس الوقت لم تؤثر سلباً في شعبية "أردوغان" للإطاحة به بل على النقيض من ذلك أوصل الشعب التركي أردوغان إلى ولاية جديدة في آخر المطاف.
في الختام بطبيعة الحال فوز أردوغان سيفتح المجال لطرح مجموعة من التنبؤات، والإشكالات، على المستوى الداخلي أو الخارجي حول سياسات تركيا مستقبلاً في ظل استمرار "أردوغان" وحزب العدالة والتنمية في السيطرة على هرم السلطة لمدة خمس سنوات قادمة.
على المستوى الداخلي: كيف سيتعامل "أردوغان" في سياساته مع المعارضة الحالية هل ستنضم إلى خططه الاقتصادية والسياسية والأمنية؟، التي سيطرحها في المرحلة الجديدة أم تكتفي بالمشاهدة والمعارضة ولو بشكل غير مؤثر في ما سيطرح من سياسات داخلية وخارجية.
أما على المستوى الخارجي والدولي، فتطرح عدة أسئلة وهي أسئلة تهم السياسة الخارجية التركية وموقعها الجيوسياسي الإقليمي والدولي وهي إما أزمات تأثرت بها تركيا أو مؤثرة فيها هل يبقى "أردوغان" على نفس السياسات "البراغماتية" في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية ومع القوى العظمى أم يتجه إلى سلك مسار آخر أكثر تقوقعاً مع شركائه الحالين؟
فهل يتصالح "أردوغان" مع النظام السوري ويفتح مرحلة جديدة بين الأتراك والجارة سوريا أم أن سياسات تركيا لن تتغير تجاه سوريا وستبقى كما كانت بعد الأزمة السورية؟
في المجمل هذه الأسئلة والإشكالات الداخلية والخارجية المطروحة، سوف تجيب عليها الأحداث والأزمات الإقليمية والدولية الراهنة والمستقبلية، وسنعرف من خلالها فعلاً هل تركيا بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة، قد دأبت على نفس النهج السياسي السابق أو قد تتراجع و تتخلى عن نهجها ومفهومها للمنتظم الدولي والعلاقات الدولية في ظل ملامح في تغيير موازين القوى بين الشرق والغرب، لا سيما أن تركيا جزء من هذا التحول العالمي، وتعتبر فاعلاً قوياً في معالم تشكل مستقبلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.