ضرب القرآن الكريم مثلاً للتخطيط السليم الذي قام على أسس منطقية، فأمكن بذلك تلاقي مجاعة كانت تهدد الناس في مصر ومن حولها بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف وهو أمين على الخزائن، وذلك حين فسر الرؤيا التي جاءت على لسان ملك مصر -كما مر معنا-. إن يوسف فسر الرؤيا وزاد عليها بأن قدم خطة عمل تستغرق القُطر كله والشعب المصري كله، أي إن خطته اعتمدت على التشغيل الكامل للأمة والبرمجة الكاملة للوقت، ثم التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في الأمة، وهذا الذي أراده يوسف وعبّر عنه بقوله: (تزرعون)، إن الذي يخطط له يوسف هو مضاعفة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، لأن الأزمات والظروف الاستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي، ولأن سلوك الناس في الأزمات غير سلوكهم في الظروف العادية -استرخاء وبطالة- فإن هذه الأمة تكون في حالة خلل خطير يحتاج إلى علاج ومعالج خبير.
إنّ يوسف قسّم خطته إلى 3 مراحل:
– (تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا) [يوسف: 47].
– (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) [يوسف: 48].
– (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 49].
وتظهر ملامح هذه الخطة في الآتي:
1- الطابع الغالب على المرحلة الأولى وهو الإنتاج والادخار مع استهلاك محدود، فيوسف حدد خطط الإنتاج بالزراعة، وحدد استمرار الإنتاج الزراعي 7 سنين، العمل فيها دائب لا ينقطع، ومع هذا الجهد الكبير في الإنتاج المستمر كان هناك تحديد واضح للاستهلاك، يبدو في قوله: (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُون) [يوسف: 47]، وأمر يوسف بحفظ السنابل المخزونة من الغلال كاملة كما هي: (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) [يوسف: 47].
2- فإذا ما انتهت سنوات الإنتاج السبع، بما فيها من جهد متصل دائب، واستهلاك محدود، كان على الخطة أن تقابل تحدياً ضخماً هو توفير الأقوات 7 سنين عجاف، وبعبارة أخرى: بعد الإنتاج والجهد الدائب في المرحلة الأولى سيأتي تحمل أيضاً في المرحلة الثانية، وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه الطعام إلى كل فم.
3- ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق، ينبغي ألا تأتي هذه السنوات العجاف على كل المدخرات، وإنما كان يوسف واضحاً في قوله: (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) [يوسف: 48]، فكان هذ الجزء المدخر هو (الخميرة) التي تستطيع بها الأمة أن تقابل متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف، أي إعادة استثمار المدخرات، ومن طبيعة التطور أن تختلف: (تفاصيل الصورة)، ولكن أساسها سيظل قائماً عميقاً في ديننا وتراثنا، وتظهر معالم التخطيط والإدارة في كلمات يوسف؛ حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف الإدارة التي لا يمكن لها أن تكون فعالة من دونها، كما أن التخطيط في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر، أما الدعامتان فهما التنبؤ والأهداف، وأما العناصر فهي السياسات، والوسائل، والأدوات، والموارد البشرية والمادية، والإجراءات والبرامج الزمنية، والموازنة التقديرية التخطيطية. إن كتب علم الإدارة والتخطيط الحديث تقول: إنه لا إدارة فعالة إلا بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق، وهذا عين الذي زاوله يوسف؛ لقد جاء إلى الحكم يوم جاء وبرنامجه الإصلاحي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي والإعلامي والزراعي، كل ذلك في ذهنه قد أعد إعداداً دقيقاً.
دعامتا التخطيط: التنبؤ والأهداف:
أما التنبؤ: فاستشراف المستقبل واستشفاف الآتي، وهذا عين ما كان يوسف بما علّمه الله تعالى، ثم نجده أيضاً قد حدّد الأهداف في مضاعفة الإنتاج وتقنين الاستهلاك أو ترشيده، ثم تخزين الطعام، وهذا يقتضي خطة تفصيلية، لأن الهدف العام الكبير ليس شيئاً إن لم يقترن بخططه التفصيلية، وهنا يأتي دور السياسات والوسائل، والأدوات والموارد البشرية والإجراءات والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية. هذا هو ما فعله يوسف على ضوء علم الإدارة الحديث، وإن كان القرآن الكريم حصر كلام يوسف في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية الإنسان، لكنها متضمنة قطعاً ضمن الخطة، لأن القرآن الكريم علمنا أن الإنسان إنما هو نفسيته ومضمونه، ومحتواه، وأن تغيير الخارج دون تغيير الداخل لا يغير نقيراً. لقد وضع يوسف العنصر البشري في خطته لعلمه أنه لا تنجح خطة ليس وراءها الإنسان الذي ينفذها. وأما منهجه في التعامل مع الإنسان فقد ظهر في دعوته للسجينين لتوحيد الله وإفراد العبادة له، وبذلك يكون منهجه في الارتقاء بالإنسان، الذي هو عدة الحضارة، ومحرك النهضة، ومنفذ البرامج، ومنجز المشاريع، ودعوته للتوحيد وتعليمه حقيقة الإيمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة.
إن فائدة التعبير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين على منجزات التغيير الخارجي، صحته وصدقه وأمانته، وإن التغيير يجب أن يمارسه الإنسان في المحتوى النفسي، فيطور وينمي ذاته باتجاه الأفضل، ثم يجسد محتواه النفسي تغييراً خارجياً، ويحوّله إلى ممارسة وتطبيق وتحقيق، لأن أحوال الناس وأوضاعها الاجتماعية من الفساد أو الخير لا تتغير إلا إذا تغيير محتوى الإنسان وما هو عليه من الحق أو الباطل، هذا هو منطق القرآن الكريم، والحياة لكي ترسي نظاماً لابد أن تهيئ له إنساناً أولاً.
إذا طورنا النظام ومفاهيمه دون الإنسان ومفاهيمه فسرعان ما يتسرب الفساد من الإنسان إلى النظام، فيقيضه أكثر مما يتسرب الإصلاح من النظام إلى الإنسان فيصلحه، لأن الأنانية وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والأنظمة، ما لم تهذبها التربية الداخلية العميقة والأخلاق الكريمة المبنية على معرفة الله وحبه والخوف منه. (سورة يوسف دراسة تحليلية، ص418-419).
إن الآيات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها نجاح الخطة ارتباطاً مباشراً، وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد هو العنصر البشري وعلاقته بنجاح الخطة:
1- استعداد يوسف ليشرف على تنفيذ هذه الخطة، وكان هذا الاستعداد بعد أن بدد ظلال الشك وأوهام التهم عن نفسه، وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة والمخططين، بين حساب الأرقام وحساب الأخلاق، بين الأسس المادية والقيم الروحية في المجتمع بين الدين والحياة.
2- الجانب الثاني: يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه في عمله، فكان من رجال يوسف المعين الصادق على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء.
كما أشارت الآيات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى عليها يوسف خطته، قال تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ) [يوسف: 48].
إنّ من معالم الخطة السياسية والاقتصادية الناجحة أن تكون مبنية على معلومات تقنية صادقة حقيقية لا على الخيال الشعري المجنح الذي لا يرتبط بالواقع، ومن هنا صارح يوسف الشعب بالشدائد التي تنتظره لكنها ليست المصارحة التي تثبط أو تقعد عن العمل، ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف من الجهد والطاقة. إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة لا تعطي، بل تأخذ وتأكل، فهي تقتضي حرصاً واحتياطاً. – (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) [يوسف: 48] لا زرع فيهن، يأكلن ما قدمتم لهن، وكأن هذه السنوات هي التي تأكل بذاتها كل ما قدمتم لها لشدة نهمها وجوعها: (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُون) [يوسف: 48] أي: إلا قليلاً مما تحفظونه وتصونونه من التهامها، ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدية، التي تأتي على ما خزنتم وادخرتم في سنوات الخصب، وتنقضي وبعدها عام رخاء، يغاث الناس فيه بالزرع والماء.
إن يوسف كان مظلوماً مضطهداً في سجن الملك، وهو يملك المعلومات والخطط، ما يجعله في محل قوة عند المفاوضة، إلا أنه لم يشترط لنفسه شيئاً، بل جادت نفسه الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح، والإرشاد دون أي مقابل من الخلق، وهذه الأخلاق الكريمة والصفات الجميلة يكرم الله بها من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلماً لدعوته، كما نلاحظ أن يوسف كان مستوعباً لفقه الخلاف؛ حيث إن الملك والشعب بعيدون عن منهج الله، منغمسون في مناهج الجاهلية، ومع هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلاد والعباد في محنة المجاعة والقحط. وهذه السعة في الفهم والاستيعاب العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس ودفعهم نحو تمكين دين الله في الأرض.
وقد كان من ثمار تدبير يوسف وتخطيطه أن حفظ الشعب من الهلاك والجوع، وخرج من الشدائد وعاد إلى الرخاء، وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي، لكي ندرك أن الإسلام لا يقوم على التخمين أو التواكل، ولكنه يهتم بأدق الأساليب وأعمقها، سواء في جوانب الاقتصاد أم السياسة أم غيرها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.