السياسة لا تخلو من الأخطاء، لكن الأخطاء الكبرى تُخرج السياسة عن مسارها. إحدى المشكلات الكبرى التي واجهت كمال كليجدار أوغلو زعيم المعارضة التركية في المنافسة الانتخابية الحالية تمثّلت في صعوبة توظيف السياسة بشكل مناسب لتعظيم فرص المعارضة بإنهاء حكم الرئيس رجب طيب أردوغان. كانت إحدى نقاط الضعف الأساسية، التي تسببت بالأداء الانتخابي الضعيف للمعارضة في انتخابات 14 مايو/أيار، تكمن في موازنة غير دقيقة لم تُعظم المكاسب ولم تحد من الخسائر.
ليس من السهل على زعيم المعارضة أن يجمع كل المتناقضات في سلة واحدة، لكنّ دقة في هندسة التحالفات الحزبية وموازنة المكاسب والخسائر، تجعلان هذا الأمر مُمكناً في لغة السياسة. كان بمقدور كليجدار أوغلو على سبيل المثال تعظيم فوائد تحالفه مع حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي لو أنّه تبنى خطاباً سياسياً واضحاً لا يجعله بنظر بعض الناخبين الأكراد "متملقاً ومنافقاً" ولا يجعله بنظر القوميين المعارضين مهندس "صفقة سوداء" مع حزب "العمال الكردستاني" المحظور من أجل الوصول إلى السلطة.
من المفارقات في الهندسة الجديدة التي يقوم بها كليجدار أوغلو للتحالفات الحزبية قبيل جولة الإعادة الرئاسية أنه لم يستفيد كما ينبغي من دروس 14 مايو/أيار لتعظيم المكاسب والحد من الخسائر.
لقد أبرم صفقة للتو مع حزب "النصر" القومي المُتشدد واضطر بموجبها إلى تقديم تعهّدات مؤلمة على غرار مواصلة العمل بسياسة الوصي التي تنتهجها الحكومة مع البلديات التي عُزل رؤساؤها بسبب صلتهم بحزب العمال الكردستاني والتأكيد على عدم السماح بأي ترتيبات سياسية وقانونية تستهدف الهيكل الوطني والوحدوي لتركيا. لكنّه في مقابل سعيه للحصول على 2.4% من الأصوات الإضافية (القاعدة الانتخابية الصلبة لحزب النصر)، يُخاطر بفقدان جزء من 8% من الأصوات الكردية التي دعمته في الجولة الأولى (القاعدة الانتخابية الصلبة لحزب الشعوب).
كما أربك كليجدار أوغلو في السابق شريكته في الطاولة السداسية ميرال أكشنار عندما فرض ترشيحه عليها وأخرج تحالفه مع حزب "الشعوب" إلى العلن رغم اعتراضها، فإنه يُربك الآن شريكه الآخر على الجبهة الكردية بتحالفه مع القوميين المتشددين.
كان كليجدار أوغلو مُحقاً عندما اعتقد أن حزب الشعوب سيتسامح مع خطابه القومي المُصطنع من بوابة الحاجة الانتخابية، لكنّ الأخير سيجد صعوبة في كيفية إقناع ناخبيه بالعودة مرّة أخرى إلى الصناديق للتصويت لصالح مُرشح تخلى في أربعة أيام فقط عن خطابه "المتسامح" مع الأكراد وأصبح قومياً متشدداً بقدر أكبر من أوميت أوزداع وسنان أوغان.
بالنسبة لحزب "الشعوب الديمقراطي"، فإن مواصلته الشراكة مع كليجدار أوغلو رغم تخليه عن الوعود التي قدمها على غرار التخلي عن سياسة الوصي ونقاش القضية الكردية في البرلمان، هي أفضل الخيارات السيئة، لأنه يعتقد أولاً أن كليجدار أوغلو لا يزال مؤمناً حقاً بأهمية الشراكة مع الحزب ويمارس "النفاق السياسي" المشروع في مثل هذه الحالات مع القوميين المتشددين، ولأنه ثانياً ينظر إلى هزيمة أردوغان على أنها حاجة ومصلحة عليا للحالة السياسية الكردية المعارضة. هذان الاعتقادان صحيحان لأن الشراكة التي أقامها كليجدار أوغلو وحزب الشعوب لم تكن وليدة اللحظة الانتخابية الراهنة بل نتيجة سنوات من التناغم والتعاون بين الطرفين.
علاوة على ذلك، فإن حزب الشعوب، استطاع على الأقل أن يفرض حضوره بقوة في الحالة السياسية التركية كنتيجة لحاجة المعارضة إلى الأصوات الكردية في الانتخابات وكنتيجة أيضاً لدوره المستقبلي في صناعة السياسة الداخلية إذا ما وصل كليجدار أوغلو إلى الرئاسة خصوصاً. من وجهة نظر استراتيجية، لا يزال حزب الشعوب ينظر إلى فوز كليجدار أوغلو، حتى مع النفس القومي المتشدد، على أنه مفيد لأنه سيُضعف عملياً السياسات الحكومية الصارمة ضده، ولأن صراعاً بين الرئاسة والبرلمان ـ في حال فاز كليجدار أوغلو ـ يُخفف الضغط على حزب الشعوب ومن خلفه حزب العمال الكردستاني.
مع ذلك، فإن التحدي الأبرز الذي يواجه كليجدار أوغلو وحزب "الشعوب الديمقراطي" في الوقت الحالي يكمن في كيفية إقناع الناخبين الأكراد الذين شاركوا في الجولة الأولى بالتصويت لصالح مرشح المعارضة في الجولة الثانية، وكذلك في إقناع الناخب الكردي الذي لم يُشارك في الجولة الأولى بالتصويت في الجولة الثانية. في لغة الحسابات، لن يكفي كليجدار أوغلو دعم نسبة الـ8% الكردية له للفوز في جولة الإعادة حتى لو تمكن من استقطاب ما يقرب من 3% من الأصوات القومية المتشددة، لأن الفارق الذي صنعه أردوغان لصالحه في الجولة الأولى يقرب من 5 نقاط مئوية. حتى مع خطاب كليجدار أوغلو المتودد مع حزب الشعوب الكردي، لم يستطِع الأخير إقناع أكثر من 8% من الناخبين الكرد بالتصويت لصالح مرشح المعارضة. لن يواجه في جولة الإعادة صعوبة في زيادة هذه النسبة فحسب، بل سيواجه صعوبة في إقناع نفس الناخبين، الذين استجابوا له في الجولة الأولى، بأن يدعموا كليجدار أوغلو في جولة الإعادة.
لا يرجع الأمر فقط إلى أن حزب الشعوب قد يكون عاجزاً عن ممارسة التأثير الكامل على كتلته الانتخابية في جولة الإعادة فحسب، بل يعود أيضاً لتراجع نسب التأييد له بين الأكراد. حصل الحزب في الانتخابات البرلمانية على 8.82% من الأصوات مقابل 11.7% حصل عليها في الانتخابات التشريعية السابقة في عام 2017، أي بتراجع بنحو 3%. كانت هذه المفاجأة الانتخابية مُربكة لحسابات كليجدار أوغلو الذي كان يُراهن على أن دعم حزب "الشعوب" سيجلب له ما يقرب من 12% من الأصوات. بمعزل عن أسباب هذا التراجع، فإن الحقيقة التي أفرزتها الانتخابات الحالية أن حزب "الشعوب الديمقراطي" لم يكن صانع الملوك في 14 مايو/أيار، وبالتأكيد لن يكون كذلك في جولة الإعادة في 28 مايو/أيار الجاري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.