تفجّر في الأسبوع الماضي جدل واسع في فرنسا، لا تزال تداعياته مستمرة إلى اليوم، وذلك على خلفية مراسلة لوزير الداخلي الفرنسي جيرالد دارمانان إلى أكاديميات وزارة التربية الوطنية الفرنسية، يطالبها بتقديم إحصاءات تفصيلية عن غياب التلاميذ المسلمين خلال عيد الفطر، وهو ما اعتبرته العديد من النقابات وجمعيات أولياء وآباء التلاميذ وكذا الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان وبمحاربة العنصرية مطلباً غير دستوري، قائم على التمييز بين التلاميذ على أساس ديني وإثني.
تعود المراسلة حسب ما كشفته عنه مديرة تشتغل بإحدى المؤسسات التعليمية التابعة لأكاديمية "تولوز" إلى أوائل رمضان، وتتحدث خلافاً لما أعلنت عنه الدوائر الحكومية الرسمية، عن أن طلب الإحصاء للتلاميذ المسلمين المتغيبين لا يتعلق فقط بعيد الفطر، وإنما يتعلق بمتابعة التغيب في شهر رمضان بأكمله.
سونسا باكيس، كاتبة الدولة المكلفة بالمواطنة، وبعد طول صمت طويل من جانب وزارة الداخلية، وأيضاً من وزارة التربية الوطنية، اضطرت إلى أن تتجاوب مع حملة الانتقادات التي توجهت للمراسلة "الأمنية"، واعترفت بوجودها، وأنها لا تعني وزارة الداخلية وحدها، وإنما تنطلق من خلفية وطنية، وأنها بعثت إلى الأكاديميات في 21 من شهر أبريل الماضي، بقصد إجراء دراسة عن تأثير بعض الأديان الدينية على الزمن المدرسي، وعلى سير الخدمات العمومية، وخاصة في الحقل المدرسي.
في الواقع، لم تتحدث كاتبة الدولة عن عيد ديني بعينه، ولا فسرت لماذا بالضبط يتم البحث عن تأثير عيد الفطر على تأمين الزمن المدرسي، وهل المقصود هو ضبط العملية التعليمية، أم ضبط تغيب بعض أفراد الأطر التربوية المعنية بالتدريس أو الحراسة؟ إنها فقط اكتفت بتأكيد وجود المراسلة، ونفت أي خلفية للتمييز بين التلاميذ على أساس ديني إثني، واحتجت على ذلك بأن الإحصاء لم يطلب أسماء التلاميذ بأعيانهم وإنما طلب فقط عدد المتغيبين.
والواقع، أن هذا الجواب الملتبس حاول فقط استباق مآلات الزوبعة بقصد محاصرتها، ومنعها من التوسع، ففرنسا، التي أضافت يوم عطلة الأسبوع الماضي، بقصد تمكين المواطنين بالظفر بأربعة أيام عطلة متواصلة لامتصاص الغضب الاجتماعي وتكسير وتيرة تأججه، لا تستطيع أن تواجه غضباً آخر أشمل، يضيف إلى المحتجين على فرض قرار الرفع من سن التقاعد دون اللجوء إلى المؤسسة التشريعية، شريحة أوسع من النقابات التعليمية ومن الناشطين في محاربة العنصرية والتمييز على أساس ديني، فالمشكلة أصلاً تبتدئ بسؤال مهم، يتعلق بشرعية تحكم وزارة الداخلية في وزارة التعليم، وكيف توجه مراسلة من أجهزة أمنية إلى أكاديميات تابعة لوزارة التربية الوطنية وذلك بشكل سري غير معلن ولا مبرر، دون أن تسري الأمور في إطار مؤسسي، فما دامت السيدة كاتبة الدولة المكلفة بالمواطنة، تقول بأن القضية وطنية، فقد كان المفترض أن يتم التنسيق مع وزارة التربية الوطنية، وأن يتم احترام الاختصاص والتراتبية المؤسسية، وأن لا تضطر فرنسا إلى أن تظهر بشكل أقرب إلى الدول غير الديمقراطية، التي تتضخم فيها وزارة الداخلية، وتصير مهيمنة على كافة القطاعات، وتبادر إلى توجيه فروع تابعة لوزارة أخرى، دون أن تكون الوزارة المعنية على علم بالموضوع.
بعض وسائل الإعلام الفرنسية كشفت عن وجود ممانعة واسعة لبعض الأكاديميات للاستجابة لمراسلة وزير الداخلية، وأنها أعلنت في مراسلات جوابية أنها لا تتلقى القرارات الإدارية من أي وزارة أخرى غير الوزارة المعنية التي تتبع لها إدارياً، في حين، تحدثت وسائل إعلام أخرى عن حدوث توتر مؤسساتي قوي، تم تخفيف درجته، بالعدول عن فكرة إحصاء شامل وتفصيلي، إلى مجرد تقديم أرقام بدون أسماء ولا تفاصيل تخص أسرة المتغيب والمعطيات الشخصية والتربوية المرتبطة بها.
ومهما يكن الأمر، فهذا التراجع التكتيكي الذي قصد به خفض التوتر المؤسساتي، أو استباق أي توتر اجتماعي مفترض على خلفية هذا الإحصاء، أو محاولة غلق باب النقاش العمومي، أو سد الباب عن محاولة محاكمة الحكومة بتهمة العنصرية والتمييز على أساس ديني ومخالفة الدستور، فإن المشكلة التي لم تستطع الحكومة حصارها، وهي الغرض الذي من أجله أقدمت وزارة الداخلية على هذا القرار، وهل يمهد لفصل جديد من معاناة المسلمين، بفرض قرارات مؤلمة قادمة، تلزم أطفالهم بالدراسة يوم عيد الفطر أو يوم عيد الأضحى، بحجة ضرورة الخضوع إلى قوانين الجمهورية التي لا تعترف بعطلة رسمية تخص الأعياد الدينية للمسلمين، أم أنها ترتب لأبعد من ذلك، مما يتعلق بترحيل المسلمين ومحاولة استباق الصراع الانتخابي مع اليمين المتطرف، وذلك باللعب بأشد أسلحته فتكاً، وهي ورقة الهجرة والإسلام.
الحكومة حاولت التخفيف من وطأة الجدل ومن توسع دائرة الخوف من مقاصدها الخفية من وراء هذا الإجراء، فالأمر في تقديرها يتعلق بدراسة، مجرد دراسة لقياس أثر بعض الأديان على ظاهرة التغيب، لكن الغاضبين من هذا الإجراء لم يقتنعوا بهذا التعليل، وإن كانوا تنفسوا الصعداء من عدم وجود أي تبعات من وراء هذا الإحصاء من قبيل متابعة الأسر، وترتيب عقوبات تربوية على المعنيين من التلاميذ المسلمين، لكن موجة الشك تعالت لديهم من أن الوضع القادم سيكون أسوأ وأشد ابتلاء، وأن سياسة ماكرون لمواجهة التطرف الإسلامي تأخذ أبعاداً أخرى، ربما كان تقرير مونتاني دقيقاً حين شرح بعض أبعادها، إذ لا تشمل فقط المجموعات الإرهابية أو المجموعات التي تستبيح العنف، وإنما يشمل أشياء أخرى من الدين، يروج اليمين المتطرف أنها تتعارض مع قيم الجمهورية، أو تسمح بتأسيس انتماء آخر يتصادم مع الانتماء للوطن، ويسوغ مخالفة قوانينه.
في العلمانيات الأوروبية المنفتحة يقع قدر كبير من التسامح مع الأديان الدينية الإسلامية، وتعتبر ذلك دليلاً على تنوع المجتمع وتعدده، ويتم تيسير كل الشروط للمسلمين من أجل ضمان حرية ممارستهم لشعائرهم الدينية، وفي كثير من الحالات يشارك مسؤولون أوروبيون المسلمين هذه الاحتفالات في رمزية مهمة تشير إلى أن قوة العلمانية تكمن في تعدد المجتمع، وضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية، لكن، بالنسبة إلى التأويل الذي يحاول ماكرون أن يقدمه للعلمانية الفرنسية، يبدو الاتجاه قوياً نحو تقييد حرية المسلمين، وانتهاك حريتهم في ممارسة الشعائر الدينية، وذلك كله، تحت غطاء ضرورة احترام قيم الجمهورية.
تحتاج فرنسا أن تستوعب أن درس إخضاع الأديان، باسم الوفاء لقيم الجمهورية، لا يأتي إلا بتصعيد التوترات، وهو اليوم، يسقط الممارسة السياسية والإدارية في فخ العنصرية والتمييز على أساس ديني إثني، وأن الأفضل في المرحلة القادمة، الاشتغال على تأويل منفتح للعلمانية، يدخل احترام الأديان وحرية ممارسة شعائرها في مضمونها، حتى تنتفي بالمطلق حكاية التعارض مع قيم الجمهورية، فالجهد الذي تقوم به سياسة ماكرون في إزالة المسافة بين التطرف الإسلامي العنيف، وبين الإسلام كدين، سيعرضها لنسف النموذج العلماني والديمقراطي، وستجد نفسها تضطر كل مرة وحين إلى أن تصحح أخطاءها غير المدروسة بتصريحات ملتبسة لا يفهم منها شيء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.