منذ يومين تم إعلان الرواية الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية، والتي فازت بها هذا العام رواية "تغريبة القافر" للروائي والشاعر العماني "زهران القاسمي"، الرواية الصادرة عن دارَي رشم ومسكلياني كانت صاحبة التوقعات الأكبر ضمن ست روايات ضمتها القائمة القصيرة. ومن روايات "حجر السعادة" للعراقي أزهر جرجيس، و"أيام الشمس المشرقة" للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي، و"الأفق الأعلى" للكاتبة السعودية فاطمة عبدالحميد، و"كونشيرتو قورينا إدواردو" للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان، و"مَنَّا" للكاتب الجزائري الصديق حاج أحمد كانت التغريية هي الأوفر حظاً في الحصول على لقب رواية البوكر لهذا العام.
من خلال النظر إلى الروايات الفائزة في الأعوام الماضية نجد تحولات كبيرة تطرأ على المعايير والسمات الفنية للعمل الروائي؛ إذ إننا نلاحظ مدى خضوع الجائزة في كل عام للأعمال غير التجريبية، وللتجارب الأدبية التي ما زالت تحتفظ بقدرة أكبر على الخوض في غمار الأدب الكلاسيكي الذي يدور في بيئة ذات خصوصية بدائية، في تجاهل تام لأعمال ذات قدرة أكبر على تقديم الجديد في فنيات كتابة الرواية، وفي عدم التفات صار واضحاً لمشاريع تستخدم السريالية أو تتفاعل مع القواعد والأنظمة الاجتماعية الأكثر تعقيداً أو تكسر تابوهات ربما تراعيها الجائزة أيضاً.
تغريبة القافر: العودة للحكايات القديمة
من الصفحة الأولى نجد فجيعة رهيبة تدفعنا للأسئلة، نقرأ أن هناك غريقة في البئر، ننشغل بها ونخطو بخطواتٍ حذرة لنعرف ما هو السر الذي دفع الجميع للإعجاب برواية "تغريبة القافر" للشاعر والكاتب العماني زهران القاسمي.
❞ ويحدث أن تستفيق للحظاتٍ فتقف مدهوشةً وهي تحدّق في ما حولها فتدرك مصيبتها، ومن دون أن تتكلّم تستغرق في بكاءٍ صامت، ثمّ ما تفتأ أن تعود إلى غيبوبتها ثانية.❝
الغريقة هي "مريم بنت حمد ود غانم" الساكنة في "قرية المسفاة" وزوجة "عبدالله بن جميل"، هكذا إذاً يمكن لقارئ النص التعرف أكثر على الأشخاص المعنيين بالحكاية التي تدور في الصحراء بالنسبة للقارئ البعيد عن الفضاء السردي. لا يظهر زمن محدد للحكاية ولكنها على ما يبدو دارت وقتما كانت البلاد جوفاء، بلا بنايات عالية أو طُرق ممهدة، حيث الماء وحده هو ما يُحيي ويُميت كل سكان هذه الأرض، وقتما كان السفر خارج البلاد واجباً للحصول على أبسط أساسيات الحياة اليومية.
يقطع زهران القاسمي الطريق الطويل في الرواية خطوة خطوة، ويُمهد حيوات أبطاله من خلال الأحداث التي تُغير حياتهم. للغريقة قصة يظن القارئ أنها القصة الأساسية للرواية بسبب الدهشة التي تُسببها للقارئ في افتتاحية النص، ولكن ما إن نعرف وجود طفل داخل المرأة الميتة غرقاً حتى تكشف الرواية عن نفسها باعتبارها حكاية "ود الغريقة".
تشق العمة "كاذية بنت غانم" بطن ابنة أخيها الغريقة لتُخرج منه سالم بن عبدالله الذي سترعاه حتى يكبر وستقف معه حينما ينعته الجميع بابن الغريقة، وستكون له أماً كما كانت لأمه التي فقدت والديها في سن صغيرة. سلسلة من اليُتم والموت المفاجئ، ومحاولات البحث عن لقمة العيش في بلاد الله الواسعة، وأمل كبير وكذاب في الحياة التي لا تتوقف عن صفع الآملين.
❞النّاس يأكلوا بعضهم بعض فهذي البلاد، لسانهم ما تشبع، ما يكلّوا ولا يونوا ليل نهار، ما يعجبهم شي، من الخير يصيحوا ومن الشرّ يصيحوا.❝
يستخدم زهران القاسمي في روايته لهجته العمانية ممزوجة بفصحى قد لا نعرف بعضها لعدم شيوعه أو اندثاره في لهجاتنا المختلفة. لغة خاصة تُضيف للحيز المكاني خصوصية أكبر وتساعدنا في التعرف على القرى ومنابع الماء المطموسة بفعل الجغرافية المنسية. لا يمكننا تحديد زمن واحد تتحدث عنه هذه الرواية، هي رواية عن الأفلاج والوديان، وأصوات جريان الماء التي تدور في أذن سالم الذي يحصل على لقب القافر بعدما أنقذ قريته من الجفاف. يسمع القافر خطوة النملة وصوت الماء في الحجر وحفيف أوراق الشجر، كان من الممكن أن تدور الرواية حول معاناته مع الأصوات المتداخلة أو رحلة البحث عن مرض أمه الذي دفعها للسقوط في البئر، ولكن بدلاً من ذلك قرر كاتبها أن يضعها في إطار أكثر هشاشة، في إطار مرهف في بيئة مقفرة ليتتبع بطل العمل الأصوات التي تسكن داخل رأسه ويتمسك بها ويستغني عن العالم. في القائمة القصيرة لجائزة البوكر لهذا العام وجدت روايات أخرى عن حكايات أكثر عمقاً.
❞كان يتساءل متعجّباً: كيف يقضي النّاس كلّ حياتهم في مكانٍ واحدٍ لا يبرحونه؟ وكيف يهابون المضيّ وحيدين إلى الأمكنة البعيدة خوفاً من الجنّ والشّياطين والسّحرة؟❝
لا تتحرك الرواية في خط أفقي كما يتمنى قارئها من حكاية تبدو شديدة الخصوصية وتحتوي على كل ما يلزم رواية تجريبية، ولكنها تسير في خط عمودي تظهر على طوله شخصيات ثانوية باهتة، ما أن ينفخ فيها كاتبها الروح حتى تتلاشى ولا نجد لها أي أثر فيما بعد. أتذكر مبدأ بندقية تشيخوف فجأة الذي يُشير لضرورة كل ما يتم ذكره في النص الأدبي، هنا نجد اتهاماً للبطل بأنه ابن الجن وأنه ممسوس في تأصيل غير مبرر للخرافة، وبلا أي تدليل حقيقي له داخل النص الروائي. القافر/ سالم هو بطل مرتعش يركض خلف الصوت الساكن في رأسه ولا يلتفت. ورغم تبريرات عديدة لوجود شخصيات ثانوية تم بترها بلا مبرر أو تمهيد، إلا أن بطل هذا العمل لم يجد ما يبرر به لنفسه اعتزاله الناس. تنتهي الرواية في ذروة الأحداث بالنسبة لي، حيث إن الدهشة من انتهاء صفحات الرواية وقتما يظل سالم عالقاً في السرداب حدث غير منطقي. يقولون مات وتقول زوجته إنه حي، يظل سالم عالقاً في خاتم الفلج يحتال على الجوع والتعب والظلام والموت، لا تنتهي الرواية إلا والماء يجرف كل شيء، هكذا يبدو وكأن الماء يحذف كل ما كتبه سالم في حياته ولا يتبقى لنا في النهاية سوى صفحة بيضاء!
أعمال أخرى
من بلدان مختلفة حكى أزهر جرجيس في روايته "حجر السعادة" ومن خلال صفحات مهما طالت فإنها ستختزل الكثير عن العراق النازف من جراح الطائفية وظلم الحُكام والمؤامرات. حجر السعادة رواية شاملة تتعارك مع جوانب اجتماعية عديدة عراقية بشكل خاص وعربية بشكل أشمل.
وفي "أيام الشمس المشرقة" نسجت "ميرال الطحاوي" عالماً داخل مدينة مُتخيلة، ومن العنوان الذي يبدو وكأنه عنوان قصيدة نثر نجد أنفسنا في الصفحة الأولى أمام حادثة انتحار! لنقع في فخ الصفحة الأولى التي يُضللنا عنها العنوان. ترمز ميرال لمدينة غير موجودة لأي مكان نعيش فيه، تصنع جغرافيا خاصة لمدينة تقع في أدنى الهرم الاجتماعي بعد مجتمع "الجنة الأبدية" وتلة "سنام الجمل" التي يُشكل سكانها الطبقة الوسطى في عالم ميرال.
التجريب واسع المدى في رواية ميرال هو أحد أوجه الجمال الفاتن في عملها الطويل، تكتب الرواية بواسطة راوٍ عليم يحكي حكاية كل بطل كما حدثت، بشكل توثيقي يعلل كيف يمكن للزمن أن يحولنا من المتن إلى الهامش هكذا أحياناً بلا أي داعٍ.
في القائمة القصيرة أيضاً قرأت رواية "الأفق الأعلى" للكاتبة السعودية "فاطمة عبدالحميد". يروي الموت حكاية عن الحيوات، يشاهدها ويطلع عليها وينفذ مهمته وقتما يأتي الأجل، في الأفق الأعلى نجد حكايات إنسانية أكثر عمقاً، حكايات ليست عن المدينة أو التطور، وليست عن الزمن باعتباره يضغط أفقياً على الإنسان حتى يسحقه ويُحوله إلى كتلة تراب. لم أتمكن من قراءة منا لعدم توفرها ورقياً أو إلكترونياً، كما لم يحالفني الحظ في مطالعة الرواية الليبية التي ترشحت في القائمة، ولكن لم يكن متوقعاً فوز رواية ليبية بعد فوز "محمد النعاس" في العام الماضي.
يبقى السؤال الذي طرحه الروائي السوري خالد خليفة في مقاله الأحدث حول البوكر قائماً: هل نقرأ يوماً ما حيثيات فوز رواية بدل غيرها بالجائزة؟ هل نطلع على الأسباب التي دفعت لجنة تحكيم لتتويج رواية بعينها دون أخرى أم أن الأمر سيظل مجرد تكهنات؟. وأتساءل أنا: هل يتوج المصريون مرة أخرى بالبوكر أم أن فوز يوسف زيدان في عام 2009 عن روايته عزازيل كان هو التتويج الأخير للرواية المصرية؟
رغم ترشح العديد من الروايات المصرية في كل دورة، إلا أن الجائزة تُقرر أن تعانق عملاً أكثر حظاً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.