كمحلل أو متابع أو باحث، دائماً ما تتطرق إلى الذهن عدة أسئلة أو استفسارات حول الاستراتيجية "الإسرائيلية" في التعامل مع قوى المقاومة المتصاعدة داخل فلسطين وخارجها عموماً، وفي قطاع غزة خصوصاً.
ولا بد أن نقرّ بأنه ليس من السهل أن نفهم "استراتيجية" مكوّن أي فاعل سياسي أو أمني أو عسكري أو حتى اقتصادي أو تكنولوجي، ما لم نفهم عمق مفهوم مصطلح "استراتيجية" ونضع ذاك المفهوم بمكانه الصحيح. كما أنه تكاد، لا بل من المستحيل، الاطلاع على خطط الدول والحكومات الطامحة لتكون في مقدمة الدول الأكثر قوة أو ازدهاراً أو تقدماً، ما لم نفهم ونتتبع استراتيجية تلك الدول وتحركها المنطلق من وسائل ربما تكون ناعمة أو خشنة.
"الاستراتيجية" بحسب معجم المصطلحات السياسية والدولية للدكتور حسين ظاهر، هي بالأصل مفهوم يوناني، يعني "فن إدارة الحرب"، ولفظة "STRATEGUS" تعني القائد الحكيم، والخبير الذي يضع الخطط. وفي القاموس الإنجليزي هي "فن استخدام الوسائل لتحقيق الأغراض أو أي شيء". وهي في المحصلة "علم وفن استعمال الوسائل المتاحة، وفقاً لخطة متكاملة لبلوغ هدف نهائي وتحقيق سياسة معينة".
أما الدكتور جاسم السلطان، فله تعريف جميل لمصطلح "الاستراتيجية"، إذ تحدث عن 5 تعريفات، معتبراً أن مصطلح "الاستراتيجية" من أكثر المصطلحات تعقيداً من حيث التعريف. وما يهمنا في هذا المقال أن أختار أحدها، إذ يقول د. السلطان "إن الاستراتيجية هي نمط تحركات تقوم بها دولة، ويمكنك دراستها من الخارج".
فبعد معركة "سيف القدس" مايو/أيار 2021، التي كسرت كل قواعد الاشتباك، وأربكت كل الحسابات، وكانت المقاومة الفلسطينية لها اليد العليا في إدارة المعركة، فقد نفذ الاحتلال الإسرائيلي عمليات اغتيال في سوريا، بالإضافة إلى جولتين من المعارك في قطاع غزة، يسميها الاحتلال الاسرائيلي – معارك ما بين الحروب – مستهدفاً القيادة العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي.
الأولى: في 5 أغسطس/آب 2022، حيث قام الجيش "الإسرائيلي"، باغتيال "تيسير الجعبري" قائد المنطقة الشمالية لـ"سرايا القدس" في غزة، بعد استهدافه بطائرة مسيًرة داخل شقة سكنية في "برج فلسطين" بحي الرمال، وحملت جولة التصعيد هذه اسم "الفجر الصادق" "إسرائيلياً"، فيما أطلقت عليها المقاومة، وتحديداً حركة الجهاد، اسم "وحدة الساحات".
جاءت هذه العملية نتيجة لحالة من التصعيد تبعت اعتقال القيادي البارز في الحركة في جنين بالضفة الغربية بسام السعدي والاعتداء عليه بوحشية.
الثانية: في فجر يوم الثلاثاء، 9 مايو/أيار 2023، اغتال جيش الاحتلال "الإسرائيلي"، 3 من قادة "سرايا القدس" الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، عبر سلسلة من الغارات والهجمات التي نفذتها الطائرات المُسيّرة الانتحارية في عدة مناطق في قطاع غزة بشكل مباغت، وحملت جولة التصعيد هذه اسم "درع ورمح " إسرائيلياً، فيما أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية في غرفة العمليات المشتركة، اسم "ثأر الأحرار".
الثالثة: في 19 مارس/آذار 2023، نفذ جهاز الموساد الإسرائيلي عملية اغتيال أحد القيادات العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في ريف العاصمة السورية دمشق، ونعت "سرايا القدس" الجناح العسكري للحركة، في سوريا، شهيدها "علي رمزي الأسود" 31 عاماً، عقب عملية اغتيال نفذها الموساد، وأكدت "سرايا القدس" أن مخابرات الاحتلال قامت باغتيال "الأسود"، بإطلاق النار عليه.
أمام هذه الوقائع الثلاثة، وبالرجوع إلى مفهوم "الاستراتيجية" التي يمكن من خلال دراسة نمط الدولة الإسرائيلية من الخارج، يمكننا أن نلحظ استراتيجية إسرائيل في التعامل مع قوى المقاومة الفلسطينية:
أولاً: إعادة تفعيل استراتيجية سياسة الاغتيالات لقادة المقاومة الفلسطينية، وبالتالي من المرجح أن نشهد عمليات اغتيال قادمة، وجولات عسكرية أكثر فتكاً وأكثر ضراوة في المشهد العام الفلسطيني، خاصة أن قوى المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني يتعامل مع حكومة صهيونية شديدة التطرف.
لكن من الأهمية الإشارة، إلى التعليمات التي أدلى بها رئيس الوزراء "الإسرائيلي"، بنيامين نتنياهو، في 19 أبريل/نيسان 2023، لوزراء حكومته بعدم الإدلاء بأي تصريحات بشأن العودة إلى سياسة الاغتيالات لقادة فصائل المقاومة الفلسطينية في أعقاب الجدل الذي أثارته التصريحات المتكررة لوزير الأمن القومي "الإسرائيلي"، إيتمار بن غفير، التي طالب فيها الأجهزة الأمنية بتنفيذ اغتيالات وتصفيات لقادة المقاومة، رداً على تصعيد التوتر الأمني والعمليات المسلحة في الضفة الغربية.
ثانياً: لا يبدو أن استراتيجية الحكومة الصهيونية المتبنية لعمليات الاغتيال ستقف عند حدود قطاع أو الضفة الغربية، إذ من الواضح أن لديها "بنك أهداف" لاستهداف قيادة قوى المقاومة الفلسطينية بالخارج أيضاً.
منذ أن أطلقت قوى المقاومة 6 أبريل/نيسان 2023، صواريخ على شمال فلسطين المحتلة من جنوب لبنان، أتهم رئيس وزراء الاحتلال "نتنياهو" قيادة حماس بالمسؤولية والوقوف وراء إطلاق الصواريخ، وتعهد بالرد الصارم، مشيراً إلى أن "إسرائيل" لن تسمح لحماس ببناء قدرات عسكرية في لبنان وغيرها، ولذلك فإن الحظر واجب ومهم، خاصة أن قوى المقاومة تتعامل مع احتلال غادر يمكن أن ينفذ أي عملية أمنية غادرة على حين غرة، والأدلة والشواهد كثيرة سبق ذكر البعض منها.
ثالثاً: ما كشفته القناة 12 "الإسرائيلية" أن المنظومة الأمنية كانت تعرف الغرف التي يقطن فيها قادة الجهاد الإسلامي داخل شققهم، وأن المخابرات الجوية كانت ترصد القادة طوال الوقت عبر الطائرات من دون طيار، وأن المخابرات البشرية في غزة كانت على تواصل دائم مع جهاز الشاباك، وتم استخدام التقنيات الذكية والقدرات السيبرانية المتقدمة التي سمحت لـ"إسرائيل" بمعرفة مكان وجود قادة حركة الجهاد الإسلامي.
هذا ما يدلل على أن قوى المقاومة الفلسطينية أمام احتلال متفوق أمنياً واستخباراتياً، ولديه من الإمكانات والقدرات التي يستطيع من خلالها الوصول للهدف، وعليه أيضاً فإن من غير الجائز الاستهانة بإجراءات الحماية والتعقب لدى قادة المقاومة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال التخفيف من حالة الاستنفار والعودة إلى الروتين أو التراخي.
ختاماً.. صحيح أن حركة الجهاد الإسلامي قد تأثرت بفعل الاغتيالات المتزامنة وغير المتباعدة لأبرز قياداته العسكرية الميدانية، إلا أن ذلك لن يثنيها ولن يثني قوى المقاومة الفلسطينية على المضي قدماً في تطوير قدراتها وتعلم الدروس والعبر مع كل جولة أو معركة.
أحسب أن السيناريو الأكثر خطورة الذي بدا حاضراً بقوة لدى المؤسسة الأمنية العسكرية "الإسرائيلية" بعد انتهاء المواجهة العسكرية الأخيرة مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هو دخول جولة قتال جديدة مباشرة مع حركة "حماس" تمتدّ فيها المواجهة إلى جبهات أخرى، وهو سيناريو واضح، لأنه سيشكل أحد أهم التحديات لدى المنظومة الإسرائيلية، والتي تأخذها في الحسبان ضمن مسار استراتيجي طويل الأمد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.