في العالم المعاصر يعاني أصحاب البشرة السمراء من التنمر، بل يتم إقصاؤهم اجتماعياً وعزلهم عن أحياء البيض، ويُشار إليهم بالتخلف والدونية، ولطالما واجهوا حملات دعائية مناهضة لهم، ولا يقتصر الأمر على الأشخاص العاديين، بل حتى المشاهير، وخاصة لاعبي كرة القدم.
قبل سنوات خرج الإيطالي "ماريو بالوتيلي" من الملعب باكياً، ورفض إكمال المباراة، بعد أن وجهت له الجماهير هتافات عنصرية؛ الأمر الذي تكرر معه أكثر من مرة حتى أخرج نجماً صاعداً عن مساره، ورمى به بعيداً ليستسلم لمشاعر الحزن وتفتر نجوميته بشكل لافت.
ليس "ماريو بالوتيلي" الوحيد فكل لاعب من أصل إفريقي عانى من ذلك، ففي إيطاليا كما في إسبانيا وحتى إنجلترا، لا تتوقف الهتافات العنصرية رغم حمالات "فيفا" والأندية لنبذ العنصرية.
"فينيسيوس جونيور" يتعرّض للعنصرية
لقد شهدت مباراة فالنسيا وريال مدريد يوم الأحد الموافق 21 مايو 2023، والتي أقيمت على ملعب "ميسطايا" معقل الخفافيش، أحداثاً مؤسفة بطلها العنصرية الجماهيرية.
إذ تلقى اللاعب "فينيسيوس جونيور" مهاجم الريال كلمات عنصرية من أحد الجماهير، أخرجت اللاعب عن طور التعقل ليوقف المباراة، ورفض إكمالها إلا بعد أن يتم إخراج المشجع، الأمر الذي لم يحدث رغم تحديد "فينيسيوس جونيور" للمشجع المتهم، ما أغضب اللاعب، الذي فاضت عيناه حزناً ألا يجد من يدافع عنه أمام هذا الاعتداء المباشر الذي يشاهده العالم.
فرأينا المهاجم الشاب وهو يذرف دموع الأسى ويحاول قدر المستطاع أن يشد عزيمته كي لا يمنح عدوه نشوة النصر، مع أننا ندرك أن عدوه خاسر في كل حال، وأن "فينيسيوس جونيور" الوسيم منتصر وإن دمعت عيناه.
ما هو الحل الجذري للعنصرية؟
لقد خرج رئيس الرابطة الإسبانية ونادي فالنسيا وحتى رابطة الدوري الإنجليزي، ولاعبون كثر ليستنكروا الحادثة، ويعلنوا دعمهم للاعب؛ كما وجّه مشجعون كثر رسائل دعم للاعب "فينيسيوس جونيور"، إلا أن هذا الدعم وهذا الشجب تكرر في حالات أخرى وحتى لم تتغير الأمور، وما زالت الحوادث تتكرر ولا يردع العنصريين رادع.
لهذا وجب التفكير في عقوبات صارمة ضد المشجعين وضد النوادي، ومن الأفضل تركيب كاميرات في كل ناحية من الملعب والمدرجات للتعرف على المتهم واتخاذ أقصى العقوبات في حق مرتكب الأفعال العنصرية، فليس يردع الناس سوى العقاب، وكما قال شيشرون "عدم إنزال العقاب، يكثر الأشرار".
"مالكوم أكس" والحل الجذري للعنصرية
لكن السؤال الحقيقي الذي سيظل يطرح نفسه حتى لو تخلصنا من عنصرية الملاعب، ما هو الحل الجذري للعنصرية؟
"عزيزتي باتي.. ربما لن تصدقي ما سأكتبه لكِ في هذه الرسالة، فأنا الآن في مكة أصلي بجانب رجل أبيض خلف رجل أسود، وآكل من نفس الطبق الذي يأكل منه رجل بعينين زرقاوين، وأشرب من نفس الكأس التي يشرب منها شيخ عربي ببشرة فاتحة! لقد أدركت الآن وأنا برحاب هذه المدينة المقدسة أن جميع مشاكل
أمريكا العنصرية لا يمكن لها أن تُحل إلا بتعاليم الإسلام العظيم".
هذه الكلمات كتبها أحد أهم شخصيات القرن العشرين "مالكوم إكس" أو الحاج "مالك الشباز" بعد إسلامه.
لم يعش "مالكوم أكس " عيشة الأطفال، ولم يكن له من حظهم إلا القليل، وذلك لأن هذا الطفل سيولد في الولايات المتحدة الأمريكية بولاية نبراسكا عام 1925، ولأبوين من السود، وهذا بحد ذاته جريمة في بلاد العام سام آنذاك.
سرعان ما وجد مالكوم نفسه دون أب، ففي سنة 1931 وجد أبوه القس مقتولاً، وكانت كل الاتهامات موجهة للعنصريين البيض الذين كانوا يلاحقونه، وبسبب هذا اضطرت العائلة لتغيير مكان إقامتها في كل مرة.
لم يكن هذا بالهيّن على مالكوم، فحياة والده القس وحياته هو نقيضان، إذ ارتمى في حضن اللهو والمرح والجريمة، في سن مبكرة؛ حتى وجد نفسه وراء القضبان في سن العشرين، وفي السجن ستنقلب حياته رأساً على عقب، إذ خرج مسلماً وخطيباً لا يُشق له غبار.
من السجن إلى الشهرة انتقل مالكوم، ومن الإسلام المحرّف إلى الإسلام النقي الذي حمله معه بعد عودته من مكة 1960، مالكوم الجديد سيجد نفسه في صراع مباشر مع معلمه ومع حركة "أمة الإسلام" التي ستغتاله سنة 1965، إذ رأت فيه تهديداً لوجودها بعد أن بدأ يكشف تدليسها وافتراءها على الإسلام.
عاش مالكوم حياته منافحاً عن السود، وفهم أن الوضع في الغرب من المستحيل أن يتحسّن مع وجود ثقافة تمجد البيض وتقدح في كل ما دونه، لهذا وجد في الإسلام الخلاص لأمته، فكانت رسالته تلخيصاً للحقيقة التي توصّل إليها "الإسلام هو الحل للعنصرية".
هل تعاليم الإسلام هي الحل فعلاً للعنصرية؟
كان سيدنا عمر -رضي الله عنه- إذا رأى سيدنا بلال قال "هذا سيدنا"، ويقول أيضاً "أبو بكر سيدُنا وحرر سيدَنا"، ولك أن تتخيل أن رجل من علية القوم في القرن الثامن للميلاد في جزيرة العرب ومن قريش يصف رجلاً أسود بالسيّد!
قد يبدو للمسلم وكأنه من البديهي، إنما للغير هو أمر جنوني لا يصدَّق، فتجارة الرقيق كانت أهم مصادر الثروة، وليس للسود في عصر قريش من حق، حتى جاء الإسلام فأعاد للإنسان إنسانيته ورفض تقسيمات قريش الوثنية، وصرح بشكل واضح بأن لا فرق بين الناس إلا بتقوى الله، وهم عند الله كأسنان المشط، وليس لرجل فضل على رجل إلا الأنبياء والرسل، وما عدا ذلك فهم سواء.
كانت هذه النقطة أشد ما أغضب قريش وجعلها ترفض الإسلام، فليس العبيد مجرد خدم وحسب، بل تجارة قائمة بذاتها، ثقافة متأصلة وحذفها يعني تغييراً جذرياً في عقلية القرشي، وهذا بالضبط ما سعى إليه الإسلام، لقد جاء بفكر جديد، يثمن الفضائل ويزيل الرذائل.
ليس هناك رذيلة حملتها العقلية العربية قبل الإسلام أشد فتكاً من الطبقية المجتمعية التي رسختها الأيام، وقد كان العرب من أشد الناس افتخاراً بالنسب والجاه والمال، ولنا في قصة عنترة بن شداد العبرة، فمع أنه فارس بني عبس الأول، إلا أنه لم يسلم من العنصرية، فقد رفضته قبيلته لأمه السوداء، فكان ينادى يا "ابن زبيبة"، وقال في هذا:
"ينادونني في السلم يا بن زبيبة .. وعند صدام الخيل يا ابن أطايبِ"
قد سخر عنترة بن شداد حياته وشعره للدفاع عن نفسه والذود عنها من أقوال الناس، فترنحت قصائده كلها بين حب عبلة وعنصرية العرب، وكانت أبياته كرماحه تخترق الصدور، وتأخذ بلب مستقبلها، وكيف لا وهو أحد فرسان العرب وأحد شعرائهم التاريخيين وصاحب معلقة هي من السبع المعروفين.
لم تتمكن أشعار عنترة ولا شجاعته من تغيير النظرة العربية للرجل الأسود، وكأن العالم ينتظر ما هو أعلى وأسمى من الشعر وأقوى وقعاً من الحسام المهنّد، هكذا انتظرت العرب قدوم الإسلام، ليتحول سيدنا بلال، العبد الحبشي، إلى أول مؤذن في الإسلام بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولأمير من أمراء المسلمين يستخلف على الولايات حتى اعتزل السياسة.
نهاية لا بد منها
حتى لو أن بعض التصرفات والمواقف في العالم الإسلامي استمرت في نظرتها لإخواننا ذوي البشرة السمراء، إلا أنها كانت وما زالت ضد الإسلام، وكل معتقد بتفوقه فهو يعارض الشريعة وله أن ينتظر الحساب الإلهي، فالله تعالى قال بتساوي الناس وهؤلاء يفرقون، فهم في تحدٍّ للمولى -عز وجل-، وسينالهم من الله ما يستحقون، جزاء ما تقترف أيديهم وأفواههم من أذية لإخوانهم.
كما أن الإسلام يستطيع أن يقدّم للإنسان الطمأنينة التي تجعله يتغاضى عن الإهانات، بعد أن يدرك عظيم الجزاء الذي ينتظره إن صبر، ناهيك عن القوة النفسية التي يغرسها في قلب المؤمن، فلا يرى هؤلاء العنصريين إلا حمقى ومجانين، وهو في الثريا لا تناله أفواه من هم في الثرى، فهل نعرض على فني الإسلام؟ ولمَ لا!
قد يقول القائل إن الإسلام لم يقضِ على العبودية، وهذه شبهة لا مجال للرد عليها، ويوجد من ردود العلماء الكثير، ونكتفي بالإشارة إلى أن العبودية في الإسلام ليست كما هي في الثقافات الأخرى، ففي الغرب يُجلد العبد ويرمى به للوحوش، بينما في الإسلام إذا رفعت يدك عليه يحرر في سبيل الله، وفي الغرب يستعبد الناس بكل شكل، أما الإسلام فقد سد جميع مداخيلها، ولك يترك سوى الأسر في الحرب، لتكريه الناس في الحروب، وجعل تحرير الرقبة مدخلاً للجنة وتكفيراً لكل ذنب عظيم.
لقد أُعجب اللاعب "فينيسيوس جونيور" كثيراً بالمغرب وجماهيره حين وصل إلى المغرب للعب المباراة الودية ضد الأسود، إذ لم يتعرض لأي عنصرية، بل استُقبل استقبالاً لا مثيل له، وهذا ما ذكره هو بنفسه وأيده لاعبون آخرون، ويؤكد هذا قلة حوادث العنصرية في كل دوريات العالم العربي، وهذا لا يعني ملائكية المجتمع فكما قلنا سابقاً، فالعنصرية موجودة رغم قوة الإسلام، ففي أحيان كثيرة ينتصر المرء لنفسه ولو ضد دينه، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.