معادلة صعبة الحل.. هكذا فشل التنسيق الأمني في إنهاء كفاح المقاومة الفلسطينية

عربي بوست
تم النشر: 2023/05/22 الساعة 12:22 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/22 الساعة 12:25 بتوقيت غرينتش

التنسيق الأمني: مصطلح  من مصطلحات استراتيجية التطبيع، فلا المنطق  يجعله مقبولاً، ولا واقع الشعب الفلسطيني المقاوم يسمح به، والحقيقة أجده  يندرج تحت مصفوفة الاستسلام الطويلة، ويحاول البعض تسويقه تحت مظلة السلام العربي الإسرائيلي، والذي جعل أصابع الاتهام توجه إلى السلطة الفلسطينية للأسف بأنها سلطة وظيفية لدى الكيان الاسرائيلي.

من خلال الواقع المعيش على أرض فلسطين في هذه الحقبة من الزمن  نستذكر موقفاً من مواقف الراحل ياسر عرفات أبوعمار المشرفة، حينما وصف من قبل شارون واتهمه بأنه "عدو إسرائيل وعدو العالم الحر، وهو عقبة السلام في الشرق الأوسط واستقرار المنطقة كلها".

هذا الاتهام جاء على خلفية العمليات الفدائية التي قامت بها المقاومة المسلحة حماس 2001، وأيضاً حادثة عبارة "كارين إيه" أو "سفينة نوح" في البحر الأحمر التي ضبطت  بتاريخ 3 يناير 2002 من قبل المخابرات الإسرائيلية، وبحماية ودعم أمريكي، محملة بالأسلحة، وكانت متوجهة إلى قطاع غزة، وهي السفينة التي قالت إسرائيل عنها حينها إن الرئيس الراحل ياسر عرفات هو من يقف خلف شرائها لاستخدامها في مقاومة الاحتلال.

هذا الاتهام شكل تغييراً استراتيجياً في رؤية الإدارة الأمريكية والحلفاء الأوروبيين تجاه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والتي بموجبها أعلن شارون أن الرئيس ياسر عرفات "خارج اللعبة".

على هذا النحو فإن التاريخ له كلمته في كشف الحقائق وإيضاح الغموض الذي تحاول العديد من الدوائر الاستثمار فيه، وأنا هنا أتحدث من منطلق النتائج الظاهرة للعيان التي أفرزتها عملية التنسيق الأمني، ولا أنصب محاكمة للتاريخ  أو لأي أحد، ولذلك تجدني كغيري يطرح أسئلة منها:

أي تنسيق أمني بين سلطة احتلال وبين  سلطة ممثلة للشعب صاحب الأرض؟ وهل هناك في التاريخ ما يدل على أن هناك شعباً يقبل بتهجيره من أرضه ومصادرة ممتلكاته والتضييق عليه وقتله والمساس بمقدساته وكرامته ثم  نقول إن له سلطة شرعية تنسق باسمه أمنياً مع من يرتكب تلك الجرائم في حقه؟ أي منطق هذا؟ لا أجد ذلك إلا بين السلطة الفلسطينية وبين سلطة الاحتلال الإسرائيلي.

جنود إسرائيليون (يمين) وضباط أمن فلسطينيون (يسار) يتحدثون خلال عملية مشتركة لإزالة قنابل في قرية قباطية شمال الضفة الغربية ، بالقرب من جنين/ 2010. AFP

التنسيق الأمني واتفاقية "أوسلو"

اتفاقية أوسلو التي كرست هذا المفهوم المعوج "التنسيق الأمني" حتى تسكن ضرس المقاومة وتراهن على الزمن والاستسلام المستمر، وفرض الأمر الواقع من قبل الاحتلال، إلا أن الوضع جاء بنتائج مغايرة، وهذا راجع لطبيعة الشعب الفلسطيني شعب الجبارين كلما وضعوا خطة إلا طرح نقيضها، وأربك بها مساعي كل من المنسق والمنسق له وحامي التنسيق والداعم له، لأنها ببساطة هي معادلة المقاومة والاحتلال. 

لنا في مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال وحلفائه عبرة من خلال محطات تاريخية متعددة، منها  تجسيد رؤية "وحدة الساحات" بعد معركة سيف القدس عام 2021، والأحداث الأخيرة المتعلقة بمقاومة العدوان الأخير على قطاع غزة ووحدة صف فصائل المقاومة التي أظهرت تماسكاً في الصف والترتيبات التي اتخذتها، بدءاً بالصمت الذي فرضته قبيل لحظة الرد على العدوان الذي استهدف رموز المقاومة، والذي هز أركان الكيان، وصولاً إلى  شلال الصواريخ الذي دفع بالكيان بأن يخضع ويذعن لقوة المقاومة وذكائها التي ظهرت في الردود المتنوعة والمختلفة.

التنسيق الأمني مقابل وحدة الساحات

بالرجوع إلى موضوع التنسيق الأمني وتكييفه، والوضع الجديد الذي فرضته المقاومة والشعب الفلسطيني في كل من قطاع غزة ومخيم جنين والقدس والضفة وغيرها من مناطق فلسطين المحتلة، نجد أنه من بين مستهدفات  اتفاقية أوسلو 2 لعام 1995، أو ما يسميها البعض اتفاقية طابا، هي وضع  الإطار المفترض تبنيه من طرف السلطة الفلسطينية ومسؤوليتها في مكافحة المقاومة  بكل أشكالها، ومنع حدوث أعمال عدائية ضد الكيان الإسرائيلي كما يزعمون، واتخاذ الإجراءات المناسبة واللازمة بحقهم، وهو مضمون يراد به ملاحقة المقاومة والقضاء عليها من طرف  السلطة الفلسطينية.

هنا نستحضر لحظات من التاريخ الذي يعيد نفسه حتى نعزز فكرة أن التنسيق الأمني مربوط ببقاء السلطة الفلسطينية، حيث إنه وفي فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت في 28 سبتمبر 2000 وتوقفت فعلياً في 8 فبراير 2005 بعد اتفاق الهدنة الذي عقد في قمة شرم الشيخ، توصلت سلطة الاحتلال الإسرائيلي بقيادة "أرييل شارون" إلى نتيجة أساسية تتضمن أن  بقاء الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على رأس القيادة الفلسطينية، يعني ذلك أن اتفاقات "أوسلو 1 -2" لن تكون كافية في  مسار التعاون الأمني، وأنه يجب فرض فكرة مأسسة التعاون الأمني وفتح الطريق أمام قيادات فلسطينية جديدة لا ترى في المقاومة وسيلة لحل القضية الفلسطينية.

9 اتفاقيات سياسية واقتصادية وأمنية وقَّعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل على مدار 27 عاماً/ توقيع أوسلو 1993، رويترز

هذا الاتجاه تجد له أثراً في مذكرات ' كونداليزا رايز" وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً بعنوان "أسمى مراتب الشرف.. ذكريات من سني حياتي في واشنطن"، والتي تحدثت في أحد فصوله عن خطاب الرئيس الأمريكي (بوش الابن)، الذي أعلن فيه: "عن ضرورة رحيل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات واستبداله بشخصية لا تقبل بتسوية مع الإرهاب (المقاومة)، هذا الخطاب جاء على إثر أحداث انتفاضة الأقصى".

جاءت تلك الفترة خلال ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن المتجاوز لكل الخطوط الحمراء، لتشكل محطة من محطات المقاومة الفلسطينية التي توغلت إلى عمق الكيان المحتل، وتحولت معها المقاومة إلى استراتيجية جديدة بمنطق جديد قابل للتطوير مهما كان التنسيق الأمني مدعوماً غربياً وعربياً.

بذلك فالنتيجة المستخلصة من قاعدة التنسيق الأمني هي أن بقاء السلطة الفلسطينية مرهون بمدى تحكمها بملف المقاومة الفلسطينية، والتهدئة في المناطق الفلسطينية، وأن عليها تحديداً بصرف النظر عن أي مسؤولية أخرى تتبع كل أثر لرجال المقاومة والفصائل المنضوية تحتها، سواء في الضفة، أم في القدس أم في قطاع غزة أم أي منطقة أخرى من المناطق الفلسطينية،  وإفشال أي محاولة لوحدة الصف المقاوم، أو تعزيز قدراتها، أو بناء حاضنة شعبية فلسطينية تمده بالمقومات المختلفة المادية والمعنوية.

لذلك فإن هذه عند تنفيذها هي مناط استمرار السلطة الفلسطينية، وتستقي منها شرعيتها، ولذلك سميت بالتنسيق الأمني ليس بناءً على ما جاءت به بنود الاتفاق وحدها فقط، بل وأيضاً ما أقر بهذا المفهوم للواقع الفلسطيني على الأرض منذ حوالي 28 سنة، الذي أثبت دون أي شك أن ممارسات السلطة الفلسطينية تصب في هذا الإطار.

توجد سلسلة من الشواهد الواقعية مدللة على الطرح السابق ذكره، نذكر منها فقط التنسيق المفضي على القبض على الأسرى الفلسطينيين الستة الذين تحرروا من سجن الاحتلال الإسرائيلي "جلبوع" كما تشير إليه بعض المصادر، أو ما حدث في مخيم جنين من استهداف شهداء فلسطينيين، كما أن السلطة، حسب المصادر الإسرائيلية، حافظت على بقاء قناة اتصال رفيعة المستوى بينها وبين حكومة الاحتلال بزعامة "بنيامين نتنياهو"، فضلاً عن مواصلة التنسيق الميداني معها على رغم إعلان السلطة الفلسطينية وقف التنسيق  الأمني.

في ظل سلسلة العمليات الفدائية الكبيرة التي وقعت مؤخراً في مناطق وأزمنة  مختلفة، منها الخضيرة وبئر السبع وتل أبيب وجنين وغيرها، ما أدى إلى مقتل العديد من الإسرائيليين وإصابة عدد كبير بجروح متفاوتة، فإن سلطة الاحتلال الاسرائيلي باتت في حالة إرباك واضحة صعب معها أن تحل معضلة الهجمات الفدائية بمفردها دون تنسيق أمني. 

ما يسعى إليه الكيان بحكومته المتطرفة الجديدة فرض السيطرة على القدس وتقسيم الأقصى مكانياً وزمانياً، وإقامة مراسيم وأعياد كعيد الفصح أو ما يسمى بمسيرة الأعلام التي حشدت الشرطة الإسرائيلية 3 آلاف من أفرادها لتأمينها، أو من خلال ما رصدته من أموال ومشاريع لإعادة الحفر تحت المسجد الأقصى المبارك للبحث عن الهيكل المزعوم وغيرها، وهي مناسبات  تحاول من خلالها جماعات الهيكل المتطرفة والعصابات اليمينية المدعومة من حكومة نتنياهو لفرض سيادة الكيان وسيطرته على ساحات المسجد الأقصى المبارك، وكل مناطق فلسطين، ومنها القدس، وهي محاولات لها  بعد داخلي إسرائيلي وآخر خارجي يرمي إلى فرض واقع جديد في ظل الفوضى وبروز عوامل التغيير في المنطقة.

الخلاصة

في تقديري من خلال هذا الوضع، وخاصة ما أقدم عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يوم الأحد الماضي الموافق 21 مايو 2023، باجتماعه بأعضاء حكومته في نفق تحت المسجد الأقصى المبارك، وذلك بعد ساعات قليلة من اقتحام أحد وزرائه باحات المسجد الشريف، وهو ما أثار إدانات واسعة، فلسطينية وعربية وإسلامية، هذا المشهد وضع الفاعلين في فلسطين أمام امتحان صعب تجاوزه، ليس فقط من قبل الفصائل المقاومة أو عموم الشعب الفلسطيني، بل حتى من داخل أضلع السلطة التي تتنافس على خلافة محمود عباس.

وتزداد المعضلة تجاه السلطة الفلسطينية حينما يفصح نتنياهو في الاجتماع ذاته بالقول إن "المعركة لا تزال مستمرة من أجل وحدة القدس"، الأمر الذي تجد السلطة نفسها فيه أمام انعدام أي مبرر بقائها في سياق معادلة استمرار السلطة المرهون بتحقيق التنسيق الأمني، لعدم قدرتها على تحقيقه حتى إن حاولت مغالطة الشعب الفلسطيني الذي لن تنطلي عليه تلك الحجج، ولا حتى سلطة الاحتلال الذي تجد نفسها تواجه المقاومة والشعب الفلسطيني، وأيضاً ضغط المعارضة الإسرائيلية التي ضاقت ذرعاً من تصرفات حكومة نتنياهو المتطرفة، فالأمر الذي بات واضحاً أن  التنسيق الأمني  فشل في  تحقيقه، ما يجعل خلافة محمود عباس ورحيله في تقديري قاب  قوسين أو أدنى.  

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد بن غربي
أستاذ في القانون الدولي
أستاذ محاضر للقانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة زيان عاشور بالجلفة - الجزائر
تحميل المزيد