قمة تكريس انتصار الأنظمة العربية على شعوبها

عدد القراءات
606
عربي بوست
تم النشر: 2023/05/20 الساعة 09:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/05/20 الساعة 09:08 بتوقيت غرينتش
صورة جماعية للقادة العرب في ختام القمة العربية في جدة 2023 - رويترز

"إذا كانت السعودية حقاً قلقة من الوجود الإيراني في سوريا، فعليها أن تسعى لإخراج طهران بنفسها، وألا تنتظر الأمريكيين أو الإسرائيليين للقيام بذلك. عندما يتمكن السوريون من الحصول على الحرية التي طالبوا بها منذ عام 2011، عندها فقط ستُجبر إيران على الخروج من اللعبة".

بهذه الكلمات شديدة الصراحة والوضوح، يختم جمال خاشقجي مقاله بالإنجليزية بعنوان "ما الذي يفهمه ترامب بشكل صحيح بشأن المملكة العربية السعودية وإيران"، المنشور في "الواشنطن بوست" بتاريخ 12 يونيو/حزيران 2018.

بعد 5 سنوات من نشر هذا المقال، طهران ما زالت في سوريا، وبشار الأسد يعود على دماء السوريين وقمعهم وتهجيرهم، إلى القمة العربية في جدة في أرض الحرمين، متعجرفاً مزهواً بنفسه، معطياً الدروس بالعروبة لنظرائه من القادة العرب.

تفيد مقارنة بسيطة بين ما نصح به خاشقجي عندئذ القيادة الجديدة في بلاده، وبين واقع الحال اليوم، مدى الانحدار في مسار السياسة السعودية وفشلها في الملف السوري، أقله خلال السنوات الخمس الأخيرة. 

من سياسة الاتكال على أمريكا لمواجهة إيران، لا سيما في سوريا، إلى العودة إلى سياسة السين ـ سين (السعودية ـ سوريا) عملاً بمبدأ من جرّب المحرّب، وأملاً بفصل بشار الأسد عن طهران، تتعدد السياسات السعودية وتتناقض في سوريا، أما الفشل فواحد. 

فكما فشلت الاستراتيجية الأولى (الاتكال على أمريكا في سوريا)، لسنا بحاجة إلى كثير من التأمّل لمعرفة أنّ الفشل سيكون أيضاً مصير الاستراتيجية الجديدة-القديمة، إذ لن تختلف كثيراً نتائج السين-السين بإصدار 2023، عن نتائج نسختها الأولى في 2009- 2010، والتي دفع لبنان والحركة السيادية فيه ثمناً كبيراً لها.

مواجهة الربيع العربي كأولوية بالنسبة للأنظمة

ربما ما لم يقله خاشقجي في مقاله هذا أنه بين استشعارها خطر إيران، وبين استشعارها التهديد الناتج عن توق الشعوب العربية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لا سيما من خلال الربيع العربي منذ 2011، تعتبر أنظمة الثورة المضادة للربيع العربي أنّ خطر الثانية أعظم وأشد خطورة عليها، أي الخطر الناتج عن حركة الشعوب العربية التواقة للحرية، ولذلك فبالرغم من خطر إيران الكبير عليها، فقد كانت الأولوية دائماً بالنسبة لهذه الأنظمة مواجهة الربيع العربي وضرورة وأده، على مواجهة إيران وحلفائها الإقليميين كبشار الأسد، وذلك ولو حتّم عليها ذلك التقرّب، ولو مرحلياً من إيران وحليفها السوري. 

بكلام آخر، إنّ الواقعية المفرطة (سياسة المصالح) التي تنتهجها أكثرية الدول العربية، لا سيما بعض دول الخليج، في علاقاتها الخارجية، لا سيما مع النظام السوري، ناتجة عن غياب الديمقراطية في هذه الدول، فلو كانت هذه الدول ديمقراطية، لما كانت استطاعت – بفعل ضغط الرأي العام فيها – أن ترسل الوفود الرسمية عالية المستوى لدمشق، أو أن تستقبل جزار الشام في عواصمها. ولكن هذه دول لا تولي أي أهمية لرأي عام متعاطف فيها مع أشقائه في سوريا ضد طاغية دمشق، أو متعجب من هذه الانعطافة الكبيرة التي تجري بكثير من النزق، الشبيه بالنزق الذي كان دفع إلى حصار دولة جارة، أو حجز حرية رئيس حكومة دولة أخرى، أو اغتيال صحافي معارض في قنصلية بلاده في الخارج.  

الهدف الفعلي للتقارب ليس في فصل بشار عن إيران و"استرجاع سوريا إلى الحظيرة العربية"، فمن وجهة نظر واقعية (سياسة "المصالح")، تبقى المصلحة المشتركة الأساسية في العلاقات بين الأنظمة الدكتاتورية التكاتف من أجل البقاء والاستمرارية، لا سيما بوجه أي بوادر ديمقراطية ممكن أن تهدد أي منها. 

هذا التقارب هو عملياً الحلقة الأخيرة التي تقفل طوق الثورة المضادة (للربيع العربي) الذي التف تدريجياً، حلقة تلو الأخرى، حول عنق الشعوب العربية التي كانت تجرأت واحدة تلو الأخرى أن تقول لأنظمتها: كفى!

وبالفعل، وفي حين أنّ تعبير "التنمية المستدامة" تم تكراره 6 مرات في إعلان جدة في ختام القمة العربية، لا سيما في سبيل "دفع العمل العربي المشترك في المجالات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية"، لم ترد كلمة "ديمقراطية" ولا أي مرة في الإعلان نفسه، وكذلك الأمر فيما خص كلمة "حرية" التي جاء البيان خالياً منها. أما كلمة "حقوق"، فقد تكررت 4 مرات في البيان المذكور، ولكن بشكل عموميات، وفي سياق لغة خشبية معهودة، دون أن يكون ذلك ولا مرة واحدة ضمن تعبير "حقوق الإنسان". 

وتلخّص هذه المفارقة الذهنية المسيطرة على الأنظمة العربية ومؤسسات الحكم فيها، ومفادها: اعتماد الحداثة كمجرد قناع شكلي للدول ولتجميل صورة الأنظمة بنظر شعوبها وخصوصاً بنظر رعاتها في الغرب، أما الحداثة كأساس ومضمون سياسي- اجتماعي مبني على حكم الشعب، فأمر غير وارد إطلاقاً لدى هذه الأنظمة. فالحداثة بالنسبة لهذه الأنظمة مجرد قناع، ممكن أن يأخذ شكل تنمية مستدامة، أو تجسس على معارضين عبر برنامج متطوّر كبرنامح بيغاسوس الإسرائيلي، أما جوهر هذه الأنظمة فمن القرون الوسطى.

ولذلك، فقد جاءت القمة العربية في جدة بمشهدية الزعماء الذين يتبادلون التهاني بانتصارهم على شعوبهم وبوأد الربيع العربي. 

انتصار الواقعية الفجة

كما تشكل قمة جدة، من وجهة نظر نظرية العلاقات الدولية، تكريساً لانتصار الواقعية الفجة المتحررة من أي مبدئية، على تيار المثالية (تيار القيم الأخلاقية ومعايير القانون الدولي وحقوق الإنسان)، وهو انتصار جاء بشق منه كردة فعل تدريجية على تحوير بعض دول الغرب لمبادئ المثالية في العلاقات الدولية والقانون الدولي عن أهدافها الأساسية، كما حصل فيما يتعلق بمبدأ التدخل الإنساني (الذي كان اجترحه الفرنسيان الوزير السابق بيرنار كوشنير، وأستاذ القانون الدولي ماريو بيتّاتي، في بدايات تسعينيات القرن الماضي)، والتفريغ السابق التدريجي لهذه المبادئ من جوهرها ومن آلياتها القانونية، لا سيما من ضوابطها الشكلية (ضرورة الاستحواذ على قرار من مجلس الأمن والالتزام بحدود مهمة التدخل كما يحددها القرار)، وتسخير هذه المبادئ في خدمة أجندات وسياسات دولية تضرب أسس القانون الدولي، كما حصل مثلاً مع تدخل حلف شمال الأطلسي في يوغوسلافيا سنة 1998، أو اجتياح العراق سنة 2003. 

وقد جاء بيان جدة ليشدد على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول (تم ذكره مرتين في موضعين مختلفين من البيان، مع تخصيص مقطع له)، بعد أن شدد عليه رئيس النظام السوري في كلمته خلال القمة، وهو مبدأ أساسي في القانون الدولي يجب التشديد عليه، لا سيما أمام سياسات إيران التوسعية، إلا انّ الأنظمة الديكتاتورية غالباً ما تحور هذا المبدأ عبر التلطي خلفه وخلف سيادة الدولة لقمع شعوبها، أي كما يجري في سوريا مثلا. 

سياسة تنويع التحالفات في الميزان

أما لازمة تنويع التحالفات التي يتشدق بها المبهورون بالسياسة السعودية بافتنان كبير، لا سيما بعيد اتفاق بكين بين السعودية وإيران، والتي ترجمت خلال القمة باستقبال الرئيس الأوكراني زيلينسكي وما يمثله من امتداد غربي، كنوع من إيجاد التوازن مع استقبال بشار الأسد حليف روسيا، فهذه السياسة تشبه أحياناً كثيرة عرض البهلوان السائر على حبل في الهواء، وهي بجميع الأحوال أمر لا يخلو من الكثير من الخطورة ويتطلب مهارة عالية لا سيما للحفاظ على التوازن. 

إنّ نجاح أو فشل هذه السياسة تحددها عوامل كثيرة، لا سيما جيوسياسية تتعلق بالبلد الذي ينتهجها، فالرئيس اليوغسلافي جوزيب بروز تيتو نجح في هذه السياسة بين المعسكرين الشيوعي والغربي، أما جمال عبد الناصر في مصر فقد نجح مرحلياً في هذه السياسة ("عدم الانحياز")، ولكنه من جهة تحول تدريجياً إلى أسير لدى الاتحاد السوفييتي الذي أمسك تدريجياً بكل اوراق الرئيس المصري، ومن جهة أخرى أتت هذه السياسة بنتائج عكسية على عبد الناصر ترجمت بهزيمة 67 المدوية التي أنهت عبد الناصر عمليا، والتي ما زال العرب يدفعون ثمن تداعياتها حتى يومنا هذا. 

أما عبد الكريم قاسم في العراق، فقد دفع غالياً ثمن هذه السياسة، ولكن في الداخل هذه المرة، لا سيما في دعمه تارة للشيوعيين ضد القوميين وتارة للقوميين ضد الشيوعيين، حتى جرى الانقلاب عليه وشطبه من المعادلة. فهل ينجح ولي العهد السعودي في هذه السياسة بين أمريكا والغرب من جهة، والصين-روسيا-إيران من جهة أخرى؟ 

المعطيات الموضوعية تحتّم القول إنّه حتى الآن لديه شخصياً من الحنكة والصلابة، ولدى بلده من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية الكثيرة التي تخوله كلها النجاح في ذلك. ولكن من جهة، أمريكا ستكون له بالمرصاد. لن تقبل بأن يهدد الاتفاق السعودي- الإيراني منسوب الضغط على إيران، لا سيما تخفيف هذا الضغط فيما خص الملف النووي الإيراني، أي لن تقبل أمريكا بأن يشكل هذا التفاهم بين السعودية وإيران برعاية صينية وسيلة كي تتنفس إيران الصعداء في المفاوضات حول ملفها النووي، كما لن تقبل أمريكا بسهولة أن تحل الصين (المستندة أيضاً على دور حليفتها روسيا في سوريا) محلها كلاعب دولي أول في الشرق الأوسط. أمريكا سوف ترد على المدى المتوسط، وإسرائيل لن تقف مكتوفة الأيدي. 

ومن جهة أخرى، فإن إيران بحاجة الآن لـ"أخذ القليل من النفس" مرحلياً جراء الضغوط عليها من عقوبات خارجية واحتجاجات داخلية، ولكن العبرة الحقيقية هي بعد أن يتخطى النظام في إيران هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها. هل عندها سوف يلتزم فعلياً النظام الإيراني بمبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو مبدأ يتعارض مع مادة أساسية في الدستور الإيراني نفسه التي تنص على مبدأ تصدير الثورة وهو مدماك أيديولوجي- استراتيجي أساسي لدى النظام الإيراني؟ يبقى الشك مشروعاً هنا.

قمة النعم الثلاث

بالمحصلة، من قمة اللاءات الثلاث في الخرطوم بُعيد هزيمة 1967 (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض)، وصل العرب إلى قمة الـ"نعم" الثلاث في جدة:

ـ "نعم" للتطبيع مع إيران بعيد اتفاق بكين بين السعودية وإيران.

ـ "نعم" للتطبيع مع نظام الأسد مع الترحيب "بالقرار الصادر عن اجتماع مجلس الجامعة على المستوى الوزاري، الذي تضمن استئناف مشاركة وفود الحكومة السورية في اجتماعات مجلس الجامعة والمنظمات والأجهزة التابعة لها".

ـ "نعم" ضمنية للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ حضرت القمة 4 دول عربية موقعة حديثا على اتفاقيات التطبيع (الإمارات العربية المتحدة، البحرين، السودان، المغرب، وكلها حليفة للسعودية ضمن معسكر "الاعتدال العربي")، ولو تضمّن البيان الختامي إشارة إلى مركزية القضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، إلا أنّ هذه أدبيات تبدو بمظهر مستلزمات اللغة الخشبية، إذ يتعارض عملياً مسار التطبيع في الواقع مع ما ورد على ورق البيان من توصيات فيما يتعلق بالشعب الفلسطيني.   

هي قمة إذعان ثلاثي الأبعاد، من قِبل أنظمة لن تجد مثيلاً في العالم للشرخ الحاصل بينها وبين شعوبها.  

 فرحم اللّه جمال خاشقجي، الذي ما كان ليسكت عن تدنيس أرض الحرمين بأن يطأ ترابها جزار الشام، والذي حتماً ما كان ليجمّل هذا العار، والذي ترك اغتياله فراغاً كبيراً في مشهد الصحافة العربية النقدية الرصينة، وأتاح تعملق الأبواق.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ساجي سنّو
حقوقي وكاتب سياسي لبناني
حقوقي وكاتب سياسي لبناني مقيم في باريس
تحميل المزيد