هناك أنواع من النعم المخفية لا نجيد الحديث عنها، أو ربما لا نستشعرها من الأساس لندرة الحديث عنها، أو ربما لأننا لا نراها نعماً أصلاً، مثل نعمة الحرمان، ونعمة النجاة. ربما حديثنا عن نعمة العافية والرزق والرضا والسكينة هو محور اهتمامنا.
وفي الحرمان نعمة كبيرة، برأيي المتواضع، قد يكون الحرمان أكرم للمرء وأشبع لنفسه المتطلبة وأهون عليه من ابتلاء السلب بعد العطاء. أكثرنا بعد العطية الإلهية نشعر بالاستحقاق ونتطلع للزيادة ويتنامى لدينا النهم للمزيد، ونبقى في حالة من الشره لكل ما شعرنا بالاستحقاق له، فلو أُصبنا بخيبة الرجاء، حل السخط وتعاظم الشعور بالألم، وحينها يتولد الانجذاب للاستحسان والمدح، وهذا يحرم المرء من لذة الخنوع للذات الإلهية، حيث تذوب الدنيا فتمتلئ النفس بالرضا والتسليم.
الحرمان يجعل الرضا سهلاً قريباً، لو حرمت الشيء سترضى بالقليل الموجود لأنك لم ترَ الكثير المفقود.
أما عن نعمة العافية، فكنت حتى وقت قريب أشعر أنها أفضل النعم؛ لأن الشخص في عافية من المرض والسقم والغم والهم وألسنة الناس، هذا سعد الدنيا، لكن بالحقيقة لما رأيت كم من معافى متجبر يفتقر الرحمة غليظ اللسان ولا يحسن الأدب مع بلايا الناس غيَّرت رأيي.
يا عزيزي أنت مُعافى فتأدب مع بلايا الناس.. لا تظهر تعاطفك المقيت وتشعر الشخص بعظم مصيبته، اقرأ حاجة الناس في أعينهم، ربما كان كل ما يريد دعاءً أو ربتة على كتفه.. لا تشعر الناس بفجاعة الوجيعة، هذا أكثر ألماً من ألم الشخص نفسه، لا تتحدث عن موعظتك من بلاء فلان، تحدث عن عظم أجره ومكانه الذي عزه الله به فيمن عنده، لا تنشر الشفقة المبتذلة، انشر خيراً وكن عوناً للناس ولا تكن عوناً للشيطان عليهم، فإن لم تستطع فاكف الناس شر لسانك. المعايرة وتسليط الضوء على خطايا الناس وبلاياهم ثمنهم من كرامتك أو من عافيتك أو من ميزانك.. ثمن غالٍ لا تقوى عليه، وفره.
أما عن نعمة النجاة، فعلى عكس ما كنت أشعر به منذ أحداث كورونا، أشعر الآن أنها أعلى نعم الله قدراً، لأن الناجي مجبور في الدنيا بالعودة للحياة وهانئ في الآخرة لعظم أجره. طالما كتب الله لك النجاة، فقد أعطاك فرصة جديدة، حياة جديدة بمنظور المدرك المحتسب، التجربة المريرة مثل المصباح، تخيل أن الله أعطاك مصباحاً لتسلك طريقك في نفق الحياة المعتم. ياعزيزي "وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً".. عِش كناجٍ لا ضحية، عِش بقلب الشجاع الذي نجا وحكمة الواعي الذي جرب.
نعم كان من الممكن ألا يحدث ما حدث، وكان من الممكن ألا تنجو أيضاً.
نحن في زمن أصبحت مراجعة النعم واستشعارها صعبة مع زيادة الضغوط وأعباء الحياة، وأصبحت أصعب مع انتشار وسائل التواصل التي أصبحت كالشيطان يعدكم الفقر، تذكر الناس بما يضيق عليهم ويشتهونه، فيصبح البديل هو السخط والتحاسد، والسخط يجلب الكدر والقنوط، والحسد روح الكفر وعين الجحود.
فلنسعَ للرضا، وإن لم نستطعه، فلنطلبه من الله، فإن استصعب، فلنشحذه، فالله يحب العبد المتملق اللحوح المتباكي. تخيل هناك من يسمع شكواك دون ملل، ولا يسأم من عطائك بلا انقطاع، ويحب نداءك، لم تبخل على نفسك الشكوى لمن يسمع، فإن لم يُجبك سيجبرك، وإن منعك حماك، وإن أعطاك كفاك. لا تبرح حتى تبلغ.. تحصن بحسن الظن بالله ومراجعة النعم.. تذكر ما نجوت منه، تذكر أن ما نجوت منه لم يُكتب عليك فنجوت.. تذكر عفوه عما يعلم وما تعلم وما هو به أعلم.. تذكر أنه سيستجيب لأنه المجيب، أنت فقط لا تعلم كيف.. كونوا بخير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.