كعادتها، حظيت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا باهتمام كبير على الصعيدين المحلي والعالمي؛ من حيث السياق والأهمية والنتائج والتبعات.
ولقد تركزت الأنظار، بشكل منطقي ومتوقع، على النتائج الكبيرة؛ حصول "تحالف الجمهور" الحاكم على أغلبية برلمانية، والسباق الرئاسي الذي تأجل حسمه حتى جولة الإعادة بعد فشل أي من المرشحين في الحصول على تجاوز عتبة الـ50%.
بيد أن في النتائج التفصيلية للانتخابات ما هو مثير للانتباه ويستحق المتابعة والتدقيق بعين التحليل، لا سيما على صعيد الخريطة السياسية والفكرية والأيديولوجية في تركيا.
قراءة في نتائج الأحزاب القومية
في مقدمة هذه النتائج المثيرة للبحث والتدقيق، يأتي تنامي حضور التيار القومي واستمرار صعوده بشكل مطرد ولافت في الحياة السياسية التركية. صحيح أن الساسة القوميين موزعون على أحزاب وتحالفات متنافسة، لكنهم متقاربون جداً من حيث الأيديولوجيا ومجمل الأفكار والسياسات، فخلافاتهم في الأساس حول القيادة وفي بعض الأحيان شخصية، وهذا أمر يسمح بتقييم التيار ككل كظاهرة قائمة.
يتوزع التيار القومي اليوم في تركيا على عدد كبير من الأحزاب؛ أهمها حزب "الحركة القومية" وحزب "الاتحاد الكبير" في "تحالف الجمهور" الحاكم، وحزب "الجيد" في "تحالف الشعب" المعارض، وحزب "النصر" في "تحالف الأجداد" اليميني المعارض.
فلقد حصل حزب "الحركة القومية" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على نسبة (10.08%) من أصوات الناخبين، ما منحه (50) مقعداً في البرلمان، وحصل حزب "الجيد" على نسبة (9.69%) ما أمّن له (43) مقعداً برلمانياً، بينما حصل حزب "النصر" على نسبة (2.23%) بدون تمثيل في البرلمان، ولم ينجح حزب "الاتحاد الكبير" كذلك في دخول البرلمان بعد حصوله على نسبة %0.98 من الأصوات.
بهذه النتائج، يكون التيار القومي، ومن خلال الأحزاب الرئيسة، قد حصل على ما مجموعه (23%) من الأصوات في عموم تركيا، و(93) مقعداً في البرلمان من أصل 600 بنسبة (15.5%). كما أن المرشح الرئاسي، ذا الميول اليمينية القومية، سنان أوغان، قد حصل على نسبة (5.1%) من الأصوات بواقع (2 مليون و800 ألف) صوت تقريباً.
كان حزب "الحركة القومية" قد حصل في الانتخابات البرلمانية السابقة على نسبة (11.1%) من الأصوات، محققاً (49) مقعداً برلمانياً، بينما حصل حزب "الجيد" على نسبة (10%)، محققاً (42) مقعداً برلمانياً. كما حصدت رئيسة حزب "الجيد"، ميرال أشكينار كمرشحة رئاسية في انتخابات 2018 على (3.6) مليون صوت بنسبة (7.3%).
بذلك، يكون التيار القومي قد زاد من حضوره وفاعليته في المشهد السياسي التركي منذ الانتخابات الأخيرة -التي تنامى فيها أيضاً عن السابق بوضوح- بنسبة تزيد على (2%)، ومع عدد أكبر من الأحزاب والواجهات السياسية.
كما أن النسبة التي حصل عليها المرشح الرئاسي سنان أوغان لا تقارن بشكل مباشر مع نسبة ميرال أكشينار في الانتخابات الرئاسية عام 2018؛ إذ خاض أوغان الانتخابات الرئاسية الحالية في ظل استقطاب كبير وحاد شمل كل الأحزاب الممثلة في البرلمان ومعظم ما بقي خارجه.
أسباب صعود التيار القومي التركي
صعود التيار القومي في تركيا ليس جديداً بل مسار مستمر منذ سنوات طويلة. فعلى سبيل المثال، كان يمثل هذا التيار في عام 2002 حزبان رئيسيان هما؛ حزب "الحركة القومية" وحزب "الاتحاد الكبير"، وكلامهما لم يحصد مقاعد في البرلمان، وبالنظر للنتائج الحالية، يمكن تقدير مدى تنامي وتوسع التيار القومي في البلاد.
يصعد التيار القومي التركي بالتوازي مع صعود التيار القومي اليميني في الغرب لأسباب متعلقة بالأزمات الاقتصادية والتحديات الداخلية لكل دولة، والتطورات العالمية. لكن في الخصوصية التركية، هناك، إضافة لما سبق، تحالف حاكم يجمع حزب "الحركة القومية" مع حزب "العدالة والتنمية الحاكم، واقتراب الأخير من الخط القومي فكراً وخطاباً وممارسة سياسية، استجابةً للتحديات سالفة الذكر ومغازلة للناخب القومي وإرضاءً للحليف.
كما أن التيار القومي التركي قد استفاد من تنوع الأحزاب السياسية؛ إذ تنامى بشكل لافت بعد انشقاق حزب "الجيد" عن حزب "الحركة القومية"، ثم لاحقاً انشقاق حزب "النصر" عن حزب "الجيد"؛ إذ يقدم ذلك عدة خيارات متنافسة للناخب القومي الذي قد لا يعجبه حزب بعينه، فضلاً عن التنافس والمزايدات السياسية، بما يؤدي لزيادة التوجه للتيار بعمومه.
في السنوات الأخيرة، ومع ثبات الأسباب السابقة واستمرارها، دخل ملف اللاجئين -السوريين تحديداً- والأجانب على السجال السياسي في البلاد بشكل مركز، وتنوعت الواجهات السياسية للتيار القومي واليمين التركي مع نشوء أحزاب جديدة؛ مثل حزب "النصر" المعادي للاجئين بخطابه الشعبوي ومزايداته بخصوص اللاجئين وما عدَّه تهديداً للأمن القومي التركي. كما أن الأحزاب القومية قد دخلت الانتخابات الأخيرة بشكل منفصل بأسمائها وشعاراتها ومرشحيها، بما فيها حزبا "النصر" و"الاتحاد الكبير" ما دفع لحالة إشباع غير مسبوقة للناخب القومي التقليدي وللناخبين العاديين المتأثرين بخطابه.
كما أن وجود مرشح رئاسي من قيادات هذا التيار، سنان أوغان، يقدم نفسه بخطاب قومي خالص ومتمايز عن التحالفين الكبيرين الرئيسين، بخلاف حالة أكشينار في انتخابات 2018، ساهم في هذه الظاهرة.
ختاماً، فإن المرجح أن يستمر هذا التيار في الصعود وأن يتحول لرقم صعب في الحياة السياسية التركية. فمن جهة ما زالت الأسباب التي دفعت لتوسعه -وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية واللاجئون- قائمة وربما تتفاقم، ومن جهة أخرى فقد زاد النظام الرئاسي أولاً ونتائج الانتخابات الأخيرة ثانياً من أهمية هذه الأحزاب ونفوذها في المشهد السياسي وحاجة الأحزاب الكبيرة لها.
ومن المستجد بعد الانتخابات الأخيرة إشارات لإمكانية نشوء تيار أو حزب جديد بقيادة المرشح الرئاسي سنان أوغان الذي لا ينتمي لأي حزب حالياً، ورغبته في تكرار التجربة في الترشح للرئاسة مستقبلاً ممثلاً عن اليمين التركي بشكل شبه حصري وبعيداً عن منظومة التحالفات القائمة، وهو أمر سيكون له بلا شك تأثيره على حضور التيار القومي في عمومه في الشارع التركي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.