"وارتفعت أسعار جميع المبيعات، حتى بلغت أضعاف قيمتها بالفضة، فصار مَن معلومه (أي الشخص الذي يدخل له) مثلاً 100 درهم في الشهر، وكان قبل هذه الحوادث والمحن يأخذها فضة عنها 5 مثاقيل ذهباً، فإنه الآن يأخذ عن الـ100 سبعة عشر رطلاً وثلثي رطل من الفلوس، يقال لها 100 درهم، ولا تبلغ ديناراً واحداً، فيشتري بهذه الـ100 ما كان قبل هذا يشتريه بأقل من 20 بكثير؛ فإن كل سلعة كانت تباع بدينار لا تباع الآن إلا بدينار وأكثر من دينار".
كان هذا تعليق المقريزي في كتابه إغاثة الأمة بكشف الغمة على الأزمة الاقتصادية التي حدثت في عصر الناصر فرج بن برقوق، أشأم ملوك الإسلام، كما وصفه المقريزي نفسه ورآه. خصص المقريزي كتابه هذا للحديث عن الأزمات الاقتصادية والتضخم المالي والفساد الإداري، ما تسبب في كل تلك المشاكل الاقتصادية التي عانى منها المصريون في أزمنة مختلفة عموماً، وزمن المماليك خصوصاً.
مظاهر الأزمة!
على مدار سنوات متفرقة في عصر سلاطين المماليك البحرية والجراكسة، مرت مصر بأزمات اقتصادية متفاوتة، إلا أن عصر الناصر فرج بن برقوق تحديداً كان فارقاً في الأزمة، حيث ارتفعت الأسعار وقلّت الموارد، بسبب سوء إدارة الدولة للموارد والحياة الاقتصادية، كما يرجح المقريزي نفسه ويفسر، في عصر وصفه المقريزي بأنه الأكثر شؤماً على بلاد المسلمين، عانى الاقتصاد في مصر من أزمة اقتصادية كانت مظاهرها انقلابات متتالية في السلطة وفساد عميق داخل الدولة كان ظاهراً لكل الأطراف التي تتنازع السلطة حينها.
في كتابه ظاهرة التضخم الاقتصادي في العصر المملوكي يوضح أسامة السعدوني بعض المعايير التي يمكن من خلالها تحديد ظاهرة التضخم التي عمّت أرجاء مصر في فترات مختلفة من عصر سلاطين المماليك. حيث كانت مظاهر الأزمة تتبين من خلال كتابات المؤرخين المختلفة، وعباراتهم التي استعملوها بصفة مشتركة مثل "تزايد الغلاء في كل ما يُباع" "ارتفعت أسعار عامة المبيعات" "الأسعار اترفعت ارتفاعاً لم يعهد مثله بمصر" "ارتفعت الأسعار حتى بلغت أضعاف قيمتها المعتبرة".
تفرقت كل تلك العبارات بشكل متتابع على مصادر التاريخ المملوكي ومؤرخيه، كابن تغري بردي والمقريزي والصيرفي وغيرهم من المؤرخين، ليعبروا من خلالها عن فساد العملة وضعف قيمتها وما ترتب عليه من زيادة الغلاء وشح السلع وندرتها. حتى أنه يمكن بشكل بسيط رؤية تأزم الدولة في مسألة التضخم من خلال المثال الذي وضحه المقريزي. أن من كان يشتري سلعة بدينار لم يعد يقدر على شرائها إلا بدينار وزيادة أو دينارين.
في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" يتحدث المقريزي عن الظاهرة وأسبابها؛ إذ يقول: "وكانت الغلال تحت أيدي أهل الدولة وغيرهم كثيرة جداً لأمرين: أحدهما احتكار الدولة الأقوات ومنع الناس من الوصول إليها إلا بما أحبوا من الأثمان، والثاني زكاء الغلال. فلأجل هذا وغيره، تفاقم الأمر وجلّ الخطب وعظم الرزء وعمّت البلية وطمّت، حتى مات من أهل الإقليم بالجوع والبرد ما ينيف عن نصف الناس. وبلغت أثمانها إلى حد نستحي من ذكره. وسبب ذلك كله 3 أشياء لا رابع لها: الأول وهو أصل الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة كالوزارة والقضاء ونيابة الإقليم وولاية الحسبة، وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل. فتخطى لأجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله بأحد حواشي السلطان ووعده بمال للسلطان ما يريد من الأعمال".
يوضح أسامة السعدوني أيضاً أن تلك الأزمات تسببت في انخفاض القوة الشرائية للدنانير المصرية، وأخذ الناس يفضلون الدنانير المشخصة والعملات الأجنبية. حيث لم يكن هناك ثقة في الدنانير المملوكية التي كان يشوبها خليط آخر غير مادتها الأصلية الذي تسبب في انخفاض قوتها الشرائية المعتادة. حيث أصبحت قدرة الدينار الشرائية خُمس ما كانت عليه قبل ذلك.
في سلعة مهمة كالقمح ارتفع سعرها 5 أضعاف تقريباً في عصر الناصر فرج بن برقوق، مما ترتب عليه أزمة في الطعام بين الناس، كون القمح عنصر رئيسي في الغذاء المصري.
كيف تفاقمت الأزمة؟
تركز السلطة في يد مجموعة معينة دون غيرها من الناس، جعل من الأمور الاقتصادية في مصر معقدة. عندما تولى المماليك السلطة بشكل فعلي منذ الظاهر بيبرس البندقداري، توالت السلطة في يد أبنائهم ومماليكهم المقربين. لذا كان من المنطقي أن يسقط الاقتصاد في يدهم في فترات متعددة ومختلفة، صحيح أن الدولة لم تكن على نفس الوتيرة طوال الوقت، إلا أنها ترنحت كثيراً في سنوات متعددة. كانت أحلك تلك الفترات فترة الناصر فرج بن برقوق كما يوضح المقريزي. يبرز المقريزي في كتاباته أسباب الأزمات الاقتصادية.
وتكمن أهمية ما كتبه خصيصاً عن الأزمات الاقتصادية في مصر، أنه حلل أسبابها وظواهرها المختلفة، يفسر هذا خلفيته المهنية كمحتسب سابق في السلك المملوكي، ما مكنه أيضاً من فهم طبيعة الاقتصاد وما يُدار خلف أروقة قصور الأمراء المملوكية. ومن خلال هذا مثلاً يوضح أن أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم الأزمة تدخل الدولة نفسها في منافسة التجار من خلال خزنهم للغلال واحتكارهم إياها، بهدف بيعها بعد ذلك بسعر أكبر.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتحدث المقريزي في نص آخر يبرز مشكلة من نوع عميق في الدولة المصرية زمن عصر المماليك حيث يقول: "واستمرار الفتن وتكرار سفره "السلطان" إلى البلاد الشامية، وما من سفرة إلا أنفق فيها زيادة على ألف ألف دينار يجيبها من دماء أهل مصر". يتحدث المقريزي هنا خصيصاً عن الناصر فرج بن برقوق ويرصد العدد الزائد من سفراته خارج القاهرة، وما يكلف هذا الدولة من أموال إضافية كانت في غنى عنها.
يستكمل كذلك أن الناصر فرج استحدث عدد الوظائف، واستكثر من الموظفين في رواق قصره حتى أن خاصيته زاد عددهم على ألف نفر، وكانت الدودارية نحو 80 دوداراً كان يكلف هذا خزينة الدولة فوق طاقتها الطبيعية.
ظاهرة أخرى تسبب في تفاقم الأزمة فرض الضرائب على كل شيء فرفع ذلك الأسعار أيضاً، وأخذت على كل نواحي مصر مغارم تجبى من الفلاحين في كل سنة وأهمل عمل جسور أرض مصر، وألزم الناس أن يقوموا عنها بأموال تجبى منهم، وتحمل إليه.
حلول مؤقتة … ونتائج كارثية!
بسبب تلك الأزمات الاقتصادية كانت تلجأ الدولة إلى حلول مؤقتة، المهم أنها تعبر الأزمة. كانت أبرز تلك الحلول بيع الأملاك العامة للدولة، كما حدث مع الناصر محمد بن قلاوون في أزمته الاقتصادية، حيث باع قطعة أرض تملكها الدولة وتدر من خلاها نفعاً يقوم اقتصادها. كان الهدف من عملية البيع تلك تدعيم المماليك أنفسهم. فضلاً عن تراكم الديون الداخلية، التي كان يلجأ إليها أمراء المماليك من آن إلى آخر، سواء من التجار الأغنياء أنفسهم أو من الأمراء الآخرين البعيدين عن السلطة.
وصل الأمر في عصر الناصر فرج بن برقوق نفسه أن أخذ أموال اليتامى واستولى عليها بظاهر الاقتراض، كانت تلك الأموال ليتامى الأمير قلمطاي. بالإضافة إلى أخذ أموال الزكاة وتصريفها في شؤون المماليك وأخذ ما تركه التجار لذويهم بعد موتهم وغيرها من الاعتداءات الصريحة على حقوق الناس.
تسببت تلك الأحداث في الانفلات الأمني في البلاد، فضلاً عن الاضطرابات الاقتصادية بين فئة التجار والمهن المختلفة، إذ لم يعد أحد منهم يأمن على اقتصاده وتجارته التي تضع الدولة عينها المستمرة عليها. لذا كان هذا سبب أدعى لانقلاب الأمراء على السلطان حينها واستبداله.
ما أصاب الناس والدولة!
"تزايد الغلاء… حتى تجاوز الحد، وجعل الغني فقيراً" كانت تلك الجملة المعبرة عما آل إليه حال الناس لابن تغري بردي في كتابه النجوم الزاهرة. طالت أزمة التضخم التي حدثت جميع الطبقات. حيث أثرت على التجار الذين أفلسوا والمزارعين والفلاحين الذين ماتوا من الجوع فضلاً عن عامة الناس في الحرف الذين انقلب حالهم من الغنى إلى الفقر، أو من كونهم ميسوري الحال إلى نزلوهم طبقات أدنى في السلم الاجتماعي.
على مستوى السلطة، فلقد كانت الأمور مضطربة إلى حد كبير، كان الناصر فرج بن برقوق يحاول بقدر الإمكان أن يصلح الأمور السياسية والاقتصادية المتأزمة في البلاد، يحاول أن يستميل الأمراء بالأموال والمعونات المختلفة، إلا أن الأمور بسبب الاضطرابات الاقتصادية انقلبت عليه. حتى أن الأمراء في الشام ثاروا وتآمروا عليهم واجتمعوا على عزله والانقلاب عليه. جاء المؤيد شيخ سلطان المماليك لاحقاً ومعه عدد من الأمراء ليقبضوا على السلطان الناصر فرج بن برقوق ويلقوا به في السجن بالإسكندرية ويحملوه ما آلت إليه البلاد من مفاسد عظيمة ومخاطر جسيمة. تولى مكانه الخليفة العباسي المستعين بالله أبو الفضل، وكان الخليفة الذي تولى السلطة الشرعية والشرفية في ذلك الوقت، وهو الخليفة العباسي الوحيد الذي تولى السلطة في مصر منذ أول خليفة عباسي آتى القاهرة في عصر بيبرس البندقداري.
لم تستقر الأمور في الدولة حتى زمن السلطان برسباي، حيث استمر سوء الأوضاع الاقتصادية مروراً بكل السلاطين الذين تولوا من بعده، سواء كان المؤيد شيخ أو السلطان المظفر شهاب الدين أحمد بن المؤيد شيخ أو السلطان ططر أو ابنه، كان العامل المشترك فيهم جميعاً كساد الاقتصاد وفساد العملة وتضخمها، إلا أن جاء السلطان برسباي، الذي عالج الأمر بإصلاحات اقتصادية وأعاد الدينار المملوكي إلى ما كان عليه بقيمة حقيقية غير مزيفة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.