تدور نقاشات عميقة بين خبراء العمل الأمني في العديد من الدول الغربية حول جدوى قوات الدرك، والتي تُعرف في بعض البلاد باسم الجندرمة، بينما تُعرف في مصر باسم الأمن المركزي. وفي ظل الغياب شبه الكامل لتناول تلك القضايا في عالمنا العربي المنكوب غالباً بأنظمة حكم مستبدة، سأستعرض أبرز ما يدور في هذا الملف من نقاشات يمكن أن تفيد في إنضاج تصوّر العمل الشرطي، ودوره في حماية المجتمع.
الدرك كظاهرة فرانكوفونية
يجادل تشارلز تيلي في كتابه "الإكراه ورأس المال والدول الأوروبية:
1990-990″ بأن صعود الدولة الحديثة ذات السيادة يرتبط بشكل وثيق مع الحرب وعمليات العنف. وقد درس المؤرخ البريطاني كلايف إيمسلي بشكل موسّع عملية تأسيس وتطور أجهزة الدرك في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، الذي شهد تطوراً اقتصادياً وصناعياً كبيراً، فخلاله تشكل الدرك لأول مرة في فرنسا بهدف حفظ الأمن في الريف ولضمان جمع الضرائب والتجنيد الإجباري مقابل الحماية من اللصوص، ثم اقتبست دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا والنمسا نموذج الدرك من أجل توفير خط دفاع أول ضد الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية المنتشرة آنذاك، ولتقديم مظهر دائم لسلطة الدولة عبر الأراضي الجديدة، مما ساعد على دمج المجتمعات الريفية في الدول القومية، وعزز من شعور السكان بمفهوم إنفاذ القانون.
لقد انتشر نموذج الدرك في الدول الأوروبية التي واجهت مقاومة كبيرة في فرض سلطتها وبالأخص في الأرياف، بينما لم ينتشر في البلدان الأنجلو سكسونية والإسكندنافية التي اتسمت بمركزية الحكم، وقلة عدد السكان في الريف، وهو ما جعل الدرك ظاهرة فرنكوفونية مقابل الشرطة المجتمعية التي اتسمت بأنها ظاهرة أنجلوسكسونية.
يشير الأكاديمي الأمريكي، موريس جانوفيتز، إلى أن قوات الدرك انتقلت إلى الدول المستقلة حديثاً بعد الحرب العالمية الثانية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، حيث استعان بها الحكام الجدد في مواجهة التحديات المحلية الجديدة، ولذا نجد أن الأمن المركزي المصري اقتبسه عبد الناصر عام 1969 من نموذج الدرك الفرنسي.
يضيف ستيورات شرودر في كتابه "شارات بلا حدود" بُعداً مهماً لأسباب انتشار ظاهرة عسكرة الشرطة خلال حقبة الحرب الباردة، إذ يشير إلى دور برامج المساعدة التي قدمت خلالها الولايات المتحدة التدريب والتمويل والمعدات لقوات الأمن الداخلي في العديد من الدول الأخرى الحليفة، بهدف مكافحة القوى الشيوعية دون المخاطرة بالتورط العسكري المباشر في تلك الدول، وقد شملت برامج المساعدات الأمريكية تأهيل ودعم أكثر من مليون ضابط شرطة في أكثر من 52 دولة حول العالم عبر توفير معدات مكافحة الشغب وأجهزة الاتصالات والأسلحة وعمليات التدريب، وأدوات المراقبة، وحفظ السجلات.
فيما يخص بلادنا، يشير بهجت قرني في دراسة له بعنوان "تحليل الأمن القومي في السياق العربي" إلى أن الدول العربية تتشارك مع بقية دول العالم الثالث في بعض الخصائص الهيكلية المشتركة، حيث أوجد سياق التخلف والفجوة بين المطالب المجتمعية وقدرة الدولة على التعامل معها حالة من الحرب الداخلية شبه الدائمة، مما ولّد انطباعاً بأن الدولة في حالة حرب ضد مجتمعها، وأثرها على هياكل الدولة وأنظمتها في ظل رؤية الدولة بأن التهديدات الداخلية أعلى وأكثر خطورة من التهديدات الخارجية.
وفي نفس السياق، يخلص نزيه الأيوبي في كتابه "الدولة المركزية" إلى أن الدولة العربية الحديثة لم تتأسس بشكل طبيعي من رحم تاريخها الاجتماعي والاقتصادي أو تقاليدها الثقافية والفكرية، إنما تأسست على يد قوى استعمارية أجنبية بالغت في تضخيم حجم الجهاز البيروقراطي، خاصة في جانبه العسكري والأمني، لخدمة أغراض الاستعمار، وهو ما بقي في حقبة ما بعد الاستعمار من خلال استيراد نماذج الحكم من الخارج.
صعود الدرك وعسكرة الشرطة
مع تبلور نموذج الدولة القومية برز التمييز بين الأمن الخارجي والأمن الداخلي، حيث ركزت الجيوش بشكل أساسي على مواجهة التهديدات الخارجية، بينما ركزت الشرطة على مهام الضبط المجتمعي ومواجهة التهديدات الداخلية وتوطيد الحكم المركزي. وانعكس هذا الفصل على الخطاب الأكاديمي الذي فرق بين الدراسات الأمنية، التي ركزت على الصراعات بين الدول، وعلم الإجرام ودراسات العدالة التي ركزت على مكافحة الجريمة.
مع توسيع مفهوم الأمن في حقبة ما بعد الحرب الباردة ليركز على أمن الأفراد بدلاً من أمن الدولة، تزايد تلاشي وضوح الخط الفاصل بين الأمن الداخلي والخارجي، وبالتالي ازداد الاهتمام بدراسة الدرك ضمن العمل النظري المعني بدراسة الدولة، وكيفية فرضها لأشكال جديدة من الانضباط داخل المجتمع في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية. وبرزت عدة تعريفات لعسكرة الشرطة من أبرزها تعريف بيتر كراسكا، الذي أصبح من التعريفات ذائعة الصيت في الوسط الأكاديمي، حيث استند إلى 4 معايير هي:
معيار مادي يركز على أنواع الأسلحة والتكنولوجيا والمعدات التي تستخدمها الشرطة.
معيار تنظيمي يركز على الطريقة التي تنظم بها الشرطة نفسها من حيث القيادة والسيطرة والتسلسل الهرمي والتقسيم الداخلي.
معيار ثقافي يركز على فحص اللغة والأسلوب والمظهر والقيم والمعتقدات التي تستخدمها الشرطة، فعلى سبيل المثال، يعكس التحول من استخدام مصطلح "مكافحة الجريمة" إلى "الحرب على الجريمة" عملية عسكرة للشرطة تتجاوز النظر إلى قضية الجريمة كمشكلة مجتمعية، كما أن تجهيز الشرطة بالزي العسكري يخلق عقلية مفادها أن الشرطي جندي في حرب.
معيار تشغيلي يركز على أنماط العمليات المتشابهة مع طريقة عمل الجيوش في مجالات مثل جمع المعلومات الاستخبارية وكيفية التعامل مع المواقف الخطرة.
أين المشكلة؟
يشير الأكاديمي الأمريكي لوسون عقب دراسته لبيانات تزيد على نحو 11000 حادث عنف لقوات الشرطة العسكرية في الولايات المتحدة، إلى وجود ارتباط بين العسكرة وزيادة وفيات المدنيين. فخطورة عسكرة الشرطة تكمن في النظر إلى المجتمعات كأراضٍ أجنبية يجب إخضاعها، ومن ثم تصبح وظيفة الجندي هي مواجهة العدو وتدميره وليس الانخراط في الخدمة العامة. وبالتالي تزداد حالات لجوء الشرطة إلى العنف، مما يخلق صراعاً بينها وبين المجتمع، ويستبدل الثقة في الشرطة بالخوف منها أو الكراهية لها، مما يقلل بدوره من شرعيتها.
انتشار الدرك أم تقويضه؟
تكشف الدراسات التجريبية عن انتشار واسع لظاهرة الدرك، فبحسب دراسة لإريكا دري بروين كان لدى 12% من الدول بحلول عام 1960 قوات شرطة من الوحدات العسكرية، بينما تبلغ النسبة حالياً نحو 88% من دول العالم.
يوجد اتجاهان متعارضان تجاه الدرك، الأول يرى أن استخدامه في مهام الشرطة يتعارض مع الحريات المدنية، ويفتح الباب أمام القمع الداخلي، مثلما فعلت قوات الكارابينييري الإيطالية في عهد موسوليني. ويدعو أصحاب هذا التوجه إلى نزع سلاح الدرك وتغيير طابعه العسكري لتقريبه من الطابع المدني، وذلك عبر إجراءات مثل: تعيين مدير مدني له، وعدم تطبيق الأنظمة العسكرية عليه بما في ذلك قانون العقوبات العسكري، ومنح أفراده الحق في الانضمام إلى النقابات، وضمن هذا التوجه فككت النمسا الدرك ودمجته ضمن الشرطة المدنية عام 2005، وكذلك فعلت بلجيكا.
ويشير التوجه الآخر إلى تزايد أهمية الدرك في مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، مثل مراقبة الحدود ومكافحة الشغب، نظراً لجمعه بين الخصائص الشرطية والعسكرية، فضلاً عن عمله كقوة داخلية موازنة للجيش. وينعكس هذا التباين على النظر إلى قوات الدرك، ففيما ينظر البعض له باعتباره نموذجاً للانضباط والشرف وخدمة الوطن، ينظر له آخرون باعتباره يمثل الاستبداد وعنف الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان.
إن الناظر إلى عسكرة الشرطة في بلد مثل مصر، يجد أنها أدت إلى تفاعلات أكثر عنفاً مع المجتمع، وراكمت الغضب الشعبي عبر سنوات، مما أوصل إلى اندلاع ثورة يناير 2011 التي ركز خلالها المحتجون على حرق أقسام وسيارات الشرطة دون غيرها من المؤسسات الحكومية.
وإن التوهم بأن المزيد من القمع هو أمر ضروري لضبط الأمن وقمع المجتمع، لن يؤدي سوى إلى احتجاجات مستقبلية أكثر صخباً وعنفاً، وهو ما نلاحظه عبر تتبع أنماط الاحتجاجات بمصر، بداية من مظاهرات الطلبة 1968، ثم انتفاضة الخبز عام 1977، وثورة يناير 2011، حيث نجد أن كل واحدة منها كانت أكثر اتساعاً وعنفاً من التي سبقتها، وهو ما يشير إلى أن الموجة القادمة قد تكون أكثر صخباً.
وفي حال حدوث تغيير منشود، فإن تفكيك منظومة الشرطة المورثة من عهود ماضية، ينبغي أن يكون في مقدمة الأولويات، على أن يتم بناء منظومة جديدة تستفيد من نموذج الشرطة المجتمعية البريطاني الذي قدّم نموذجاً مختلفاً أقل دموية بكثير من نموذج الدرك الفرنسي أو قوات سوات الأمريكية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.