في الستينيات من القرن الماضي، ظهرت صناعة الدراما الكورية الجنوبية للمرة الأولى، ولأنها كصناعة جديدة لم تستطع مغادرة بيئتها الوطنية والمحلية، اقتصرت على نوع محدد جداً من الأعمال الدرامية، وهي أعمال التاريخ والميلودراما، وكانت تمتاز هذه الأعمال بشكل أو بآخر برداءة كتابتها، وهذا لكونها صناعة جديدة، وكذلك بالتمثيل المفتعل، والذي كان علامة تجارية لها.
أما الآن فقد اختلفت الدراما والسينما الكورية بشكل جذري تماماً، وانفصلت بشكل مبهر عن بدايتها المتواضعة، لتصنع أحد أشهر وأنجح العناوين الدرامية الكورية في التاريخ، وتحصد الجوائز العالمية، وتحجز للدراما الكورية مقعداً في صناعة الدراما العالمية.
وهنا من المنطقي أن يأتي السؤال: ماذا حدث؟ كيف استطاعت الدراما الكورية الجنوبية أن تقفز هذه القفزة الخارقة وتتطور بشكل مبهر لتنافس أشهر أسماء الدراما الغربية والأمريكية، بل وتقتنص منهم الجوائز.
دعوني أحاول الإجابة عن هذا السؤال في ضوء مسلسل نتفليكس القادم والجديد The Black Knight.
عن مسلسل The Black Knight
يصدر المسلسل على منصة نتفليكس في يوم الثاني عشر من هذا الشهر، ويقدم قصة مأساوية تحدث في مستقبل مرعب ليس بعيداً عنا، حيث في عام 2071، تفاقمت أزمة تلوث الهواء بشكل مرعب، حتى قتلت 99% من سكان شبه الجزيرة الكورية، والناجون الآن عليهم الاعتماد بالكامل في تنفسهم على أقنعة تنفس، ثم على نوع معين من الرجال يسمونهم بالفرسان، وعلى الفرسان القيام بعملية النقل الخطيرة في بيئة قاتلة لتزويد الناجين باحتياجاتهم، والتي تتضمن الهواء النقي كي يبقوا على قيد الحياة.
وفي أحد الأيام يتقاطع طريق أشهر فارس وسط الفرسان، وهو الفارس "5-8" مع طريق فتى صغير يسمى Sa-Wol، والذي يتمنى أن يكون فارساً عظيماً بدوره، فيقرر فارسنا المغوار تدريب الفتى كي يصبح مثله في عالم مظلم ويوشك على الموت.
بالطبع اتضح لك الآن كون المسلسل يستكشف أحد أهم سيناريوهات الخيال العلمي القريبة منا، وكذلك يسلط الضوء في سياق ممتع على أزمة التلوث والتغير المناخي.
وحتى الآن قال صانعوه إن العمل يعتمد بشكل أساسي على شخصياته وتطورهم في بيئتهم المرعبة، كما أنه يحاول أن يقتبس من تجربة الفيلم الأشهر Mad Max وكذلك The Postman.
ويمكنك الملاحظة كيف أخذت الدراما الكورية طريق الانفتاح حول الأفكار والقصص، وكيف أصبحت تغامر في فئات قصصية مختلفة، وهذا المسلسل وسابقوه مثال على هذا.
كيف يعكس مسلسل The Black Knight تطور الدراما الكورية
من مسلسل Vincenzo وحتى Squid Game يمكنك رؤية كيف انفتح العقل الدرامي الكوري على العالم بأسره، ليصنع معالجات جديدة تماماً حتى ولو بأفكار مقتبسة من أعمال عالمية أخرى.
ويعكس هذا التغير الحاد في طريق الدراما، والذي يظهر جلياً في العقد الأخير بعد الانطباع الذي أُخذ عنها بأنها دراما متواضعة ومليئة بالمبالغات الميلودرامية، حالة الانفتاح العالمية التي يعيشها المجتمع الكوري في هذه اللحظة.
فهذا الانفتاح جعل عقول صانعي الدراما مستعدة لاستقبال الأفكار التي لم يعتادوا صياغتها من قبل، ومسلسل The Black Knight دليل على هذا، فهو مسلسل خيال علمي، يدور في مستقبل من الديستوبيا البائسة، حيث يناقش أزمة التلوث وتغير المناخ، وهذه الأفكار والنقاشات هي أفكار ذات نطاق عالمي وليست أفكاراً كورية محلية.
والمسلسل بالفعل يستعد ليرث نجاح سابقيه، فقد قررت شبكة نتفليكس نشره في 190 دولة حول العالم، حيث من المفترض أن يأسر أجيالاً من المشاهدين الجدد نحو الدراما الكورية كما فعل سابقوه.
نظرة عامة على عملية تطور الدراما الكورية
كما قلت سابقاً، حين بدأت الدراما الكورية في الستينيات من القرن الماضي، كانت متواضعة بشكل كبير، ولكن مع مرور السنين، وانفتاح كوريا الجنوبية على العالم بدأ شكل الدراما الكورية في التغير منذ بداية التسعينيات.
ففي هذه الفترة بدأ ظهور محطات الكابل، وتسلسل أبعد للدراما الكورية إلى أماكن مختلفة من العالم، هذا التسلسل تطلب أن يصحبه نوع من التطور في الدراما حتى تجذب نوعاً جديداً تماماً من الجماهير، وهكذا بدأت الدراما الكورية بتقديم أعمال كوميدية ورومانسية، وكذلك من نوع الأكشن والإثارة.
بعد عام 2000 استطاعت بعض الأعمال الدرامية الكورية أن تحقق نجاحاً عالمياً مثل مسلسل Winter Sonata، والذي يسرد قصة رومانسية لابن موسيقي شهير يستكشف ماضي بلدته، وبسبب هذا النجاح والذي تُبع بنجاحات أخرى لمسلسلات أخرى، بدأ صانعو الدراما الكورية بالتركيز أكثر على الجوانب الكتابية للحبكة وتطور الشخصيات، وكذلك على الجوانب الاستثمارية في أفكار الدراما، ما مهد الطريق للنهضة العالمية التي بدأت في العقد الماضي.
بعد عام 2010، حدث انفجار حقيقي في شهرة الدراما الكورية، ويرجع هذا الانفجار لانتشار منصات البث عبر الإنترنت، كنتفليكس وغيرها، وبسببها تم تقديم الدراما الكورية بشكل أوسع لكل مكان في العالم، وتقديمها للعديد من الأجيال الجديدة، والذي دفع الدراما للتطور أكثر بدورها لتكون على القدر المتوقع منها بسبب هؤلاء المشاهدين الجدد.
ومن الصفات التي تمتاز بها الدراما الكورية عن غيرها من الدراما الغربية، أنها تعكس الأجواء والهوية والعادات والتقاليد الكورية، كأنها عدسة مكبرة على مكان آخر في الجانب البعيد من العالم، ما يمنح الكوريين فرصة حقيقية لإخبار العالم بقصصهم وتاريخهم.
لماذا نجح هذا التطور في الدراما الكورية؟
قلت سابقاً إن من أسباب تطور الدراما الكورية دعم شبكات البث عبر الإنترنت لانتشارها، ولكن هناك أسباب أقوى لهذا النجاح، وأول سبب فيها هو الدعم الحكومي المستمر، الذي تقوم به الحكومة الكورية لصناعة السينما والدراما هناك.
كما أن الانفتاح الكوري على السوق العالمي سبب أساسي آخر، فقد منح الكوريين نظرةً عميقة للثقافات الأخرى والثقافة العالمية المشتركة، والتي سعوا أن يكونوا جزءاً منها منذ البداية.
وبسبب هذا الانفتاح يظهر السبب الثالث لنجاح عملية التطور، فقد أسهم الانفتاح في منح الأعمال الدرامية الكورية فرصة أمام الأعمال الدرامية الغربية، والتي استطاعت الدراما الكورية استغلالها جيداً لتسرق جمهور الدراما الغربية تجاهها، وهذا النجاح دعم فوزها في السوق العالمي، وبالتالي قام بزيادة الفرص الاستثمارية في الدراما الكورية.
وهذه الأسباب جميعاً، مدعومة بالعديد من صناع الدراما الموهوبين، أسهمت في تطوير وبلورة الدراما الكورية الحالية، والتي تمتلك شريحة مهولة من المعجبين عالمياً.
في النهاية، من الجيد لنا كمشاهدين أن نرى دراما تعكس هوية وثقافة شعبها الخاصة، وفي الوقت نفسه تنافس الدراما العالمية للغرب، وتنزع منها أكبر جوائزها، وهذا للأسف يجعلني دائماً في وضع التمني، أن نصل كأمة عربية يوماً ما إلى التنافس بالدراما الخاصة بنا عالمياً، وأن نخرج من زاوية التقليد والانبهار بالإنتاج الغربي، وندخل مرحلة الإبداع والريادة في هذا المجال.
وبالتأكيد أنا أشعر بالحماس من هذه اللحظة لمشاهدة مسلسل The Black Knight الجديد، وأرجو أن يكون على قدر التوقعات بالنسبة لي على الأقل كما كان سابقوه على قدرها، وأرجو كذلك أن ينال إعجباكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.